فرشة تاريخية موجزة حول نشأة علم الاجتماع عند الغربيين

1 1٬534

            يقتضي الحديث عن بداية الدراسة الاجتماعية للأدب ، الوقوف عند المرحلة التاريخية التي ظهر فيها علم الاجتماع  وهي فترة عصر النهضة الأوروبية ، الذي يشمل القرن الخامس عشر و السادس عشر ، الذي بدأت فيه أوروبا تخرج من دياجير ظلمتها ، حيث كانت تقبع تحت نظام الإقطاع من جهة وسلطة الكنيسة البابوية من جهة أخرى . ويعد هذا العصر أيضا فجرا للرأسمالية  – التي نمت و ترعرعت مدفوعة بقوة حركة الاكتشافات الجغرافية الكبرى – و للثورات ( الإصلاحية : حركة الإصلاح البروتستانتي التي قادها الراهب الألماني مارتن لوثر سنة 1517 / العلمية : نظرية العالم البولندي كوبرنيكوس ( 147-1543) التي تقول بدوران الأرض والكواكب حول الشمس / تأسيس المنهج العلمي بشقيه : التجريبي الاستقرائي ، المعتمد على الملاحظة والرصد الدقيق للوقائع ، على يد فرنسيس بيكون(1561- 1626) ثم الرياضي الاستنباطي المعتمد على العقل الذي أقامه رينيه ديكارت (1596- 1650) .

           وما أن دخلت أوروبا عصر الأنوار(القرن السابع عشر والثامن عشر) حتى زاد الاهتمام بدراسة الظواهر الاجتماعية، ومن أبرز المفكرين الذين كانت لهم بصمات واضحة على تطور الدراسة الاجتماعية في هذه الفترة نجد الفيلسوف الفرنسي شارل دي مونتسكيو (1689-1755) الذي حاول دراسة العلاقة بين النظم الاجتماعية وتأثرها بالبيئة والمناخ ، ثم العالـم الايطالي جيامبا تيستا فيكو (1668-1744) الذي قسم تاريخ كل أمة إلى ثلاثة عصور ، ثم العالمان الفرنسيان كوندرسي(1743-1794) و سان سيمون(1760-1825).

             و يعد أوكست كونت(1798-1848) الأب الشرعي لعلم الاجتماع الغربي، وذلك باتخاذه موقفا وسطا بين فكر فلاسفة الأنوار و الفكر المضاد لهم المتمثل في الحركة الرومانسيةª ، الذي يقر بالنظرة العلمية التي نادى بها فلاسفة الأنوار ، وبحركة المجتمع التي تخضع بالضرورة لقوانين فيزيائية لا تتغير – حسب ما قال به الرومانسيون – .

       كما أن القرن التاسع عشر يعج بعدد كبير من علماء الاجتماع( هربرت سبنسر 1820- 1903/ فيرنر زومبارت 1863-1941/ جورج سميل 1858-1918/ فرديناند تونيز 1855-1936) الذين كانت لهم إسهامات واضحة في بناء هذا العلم ، كما أن هذا القرن شهد تقدما كبيرا في الصناعة ونمو المدن وبروز الطبقة العاملة ، فضلا عن تطور العلم وظهور النظريات العلمية ، التي كان لها تأثير أساسي في التوجهات النظرية في علم الاجتماع ، كنظرية التطور والارتقاء لتشارلز داروين 1809-1882) سنة 1859 ، بالإضافة إلى إسهامات هؤلاء العلماء نجد مساهمة المفكر الألماني كارل ماركس( 1818- 1883) و العالم الفرنسي إميل دوركايم(1858- 1917) والألماني الأخر ماكس فيبر( 1864- 1920) ، فالأول تبقى نظرته للمجتمع غامضة : فنظرة ماركس الشاب تركز على دور الفرد ونشاطه في العملية التاريخية ، ليست هي نظرة ماركس الشيخ التي ترى أن المجتمع خاضع في حركته لقوانين تشبه قوانين الطبيعة لا سبيل للإنسان بتغييرها فهي قدر محتوم ، أما الثاني فنظرته للمجتمع تتلخص في كون هذا الأخير مصدر لتشكيل الفرد وقولبته كيفما شاء ضمن أطره الثقافية ، فأصبحت مهمة علم الاجتماع عنده بذلك هي دراسة العلاقات الاجتماعية وتفسيرها ، أما الثالث فكان الفرد عنده هو ركيزة الحياة الاجتماعية به تتحرك وتتطور. [1]

بعد هذا المهاد التاريخي حول نشأة علم الاجتماع ندلف إلى الحديث عن بداية الدراسة الاجتماعية للأدب أي بداية ارتباط الظاهرة الأدبية بعلم الاجتماع الذي تبلورت مفاهيمه ومناهجه .

فجذور العلاقة بين الأدب (النقد الأدبي) وعلم الاجتماع تعود إلى ظهور الفلسفات المادية الكبرى خلال القرن التاسع عشر: الفلسفة الوضعية التي ارتبطت بأوكست كونت ، والمادية التاريخية التي ارتبطت بكل من كارل ماركس و فريدريك انجلز . ويمكن أن نميز في الدراسة الاجتماعية للأدب بين مرحلتين أساسيتين ، على الرغم من اختلاف الباحثين حول تقسيمات و اتجاهات هذه الدراسة، وهما : المقاربة الاجتماعية للأدب و علم اجتماع الأدب .[2]

  1. المقاربة الاجتماعية للأدب:

                   وتنحصر من بداية القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. وقد ميزها صدور كتاب العالم الايطالي فيكومبادئ العلم الجديد ” سنة 1725 ، الذي حاول فيه الباحث إبراز العلائق القائمة بين الإنتاج الأدبي والنظام الاجتماعي الذي ينتج فيه هذا الأدب ، مؤكدا على أن كثيرا من الأنواع الأدبية ما كانت لتظهر لولا السياقات والشروط الاجتماعية المرتبطة بها ، فالملاحم بالنسبة إليه ارتبطت بالمجتمعات العشائرية ، والمسرح ارتبط بمجتمع المدينة ، والرواية ارتبطت بظهور المطبعة والتعليم . ثم كتاب الناقدة الفرنسية مادام دو ستايل (1766-1817) ” الأدب وعلاقته بالأنظمة الاجتماعية ” الذي حاولت من خلا له دو ستايل الكشف عن عنصر التأثير و التأثر الحاصل بين الأدب والمجتمع ، أكثر من السعي إلى إنتاج معرفة ” سوسيولوجية دقيقة بالأدب “.[3] ثم يأتي بعدها العالم الفرنسي هيبوليت تين (1828 -1893) ، بكتابه ” تاريخ الأدب الإنجليزي ” الصادر سنة 1863 ، الذي يرى فيه أن الأثر الأدبي هو بمثابة شيء و معطى خارج الذات يصبح معه هذا الأثر ذا طبيعة ودلالة اجتماعية ، كما بحث عن الملكة العليا عند كل أديب انطلاقا من تحديده لثلاثة شروط مميزة لها هي : الجنس أو العرق ثم الوسط ثم اللحظة التاريخية . ثم يليه بعد ذلك كل من ماركس و انجلز بنظريتهما المادية التاريخية التي شكلت المنطلق الفعلي للنقد الاجتماعي الجدلي الذي أخذ منها ركائزه الأساسية ، وخصوصا في اعتباره النتاج الأدبي شكلا من أشكال البنية الفكرية للمجتمع ، أي اعتبار ” البنية النصية وسيط بين البنى الاجتماعية أو الاقتصادية الخاضعة لها “.[4] ثم مساهمات علماء الاجتماع الألمان الذين قاموا بدراسات في الأيديولوجيا والمجتمع والإبداع وأثروا تأثيرا مباشرا في جورج لوكاتش . و أطاريح مدرسة فرانكفورت الألمانية ª وخصوصا تلك الأعمال التي أنجزها تيودور أدورنو و هوركهايمر ، سواء ما تعلق بالنقد الاجتماعي أو التاريخي أو الجمالي.

  1. علـم اجتمـاع الأدب :

   ويمكن التأريخ له منذ منتصف القرن العشرين ، إذ يعتبر المسار التطوري للدراسة الاجتماعية للادب التي استفادت من ” التطور الكبير الذي قطعه علم الاجتماع في مضمار العلم ، سواء بتدقيق موضوعاته و مناهجه أم بإفادته من اللسانيات التي أمدته بمفاهيم ومناهج جديدة لدراسة الظواهر الاجتماعية ” [5] ، وللنقد الاجتماعي للادب . كما أن ميلاده ارتبط بكل من:

  • جـورج لوكاتـش: (1885- 1971)

     الذي استنتج أن الانتقال من الملحمة إلى الرواية جاء نتيجة لصعود البرجوازية، وما حملته معها من هواجس أخلاقية و تعليمية(تأثر لوكاتش بهيغل). وقد قام لوكاتش بتصنيف الأنواع الأدبية إلى ثلاثة أنواع تبعاً لنجاح العمل الفني في تحقيق الوحدة بين الجوهر والمجتمع:
أ ) النوع الملحمي: وهو النوع الأول الذي يكون الجوهر والحياة فيه كلاً مستمراً، وتتسم علاقة البطل   بجماعته فيه بأنها علاقة عضوية.
ب) النوع المأساوي: ويستند إلى الإحساس المأساوي بالتعارض بين الجوهر والحياة وبانفصال البطل عن الجماعة.

ج) النوع الأفلاطوني: ويستند إلى قبول الانفصال الكامل بين الجوهر والواقع والبطل والجماعة بحيث يصبح الجوهر جزءاً من عالم مثالي ثابت ويصبح الواقع والحياة مجرد أجزاء متناثرة.
كما يرى أن الرواية الواقعية (في عصر البورجوازية) محاولة للعودة إلى الرؤية الملحمية والاستمرارية السردية بين الجوهر الروحي والحياة الواقعية والمادية.[6] غير أن طموحات لوكاتش النظرية لم تسمو عن تطبيقها عند مستوى التحقق ، لتشبثه في تحاليله بالمادية التاريخية التي تعطي الأسبقية للطبقة العاملة في بناء المجتمع.

  • لوسيـان كولـدمان: (1913- 1970)

  في منهجه البنيوي التكويني ، الذي استند أثناء تأسيسه على أعمال أستاذه جورج لوكاتش (الروح والأشكال/ نظرية الرواية / الرواية التاريخية / بلزاك و الواقعية الفرنسية / التاريخ والوعي الطبقي…) الذي حذر من الوقوع في التفسير الانعكاسي (الميكانيكي) للأعمال الأدبية اعتمادا على معتقدات المبدعين وانتماءاتهم .

  ورغم أن كولدمان يستند بدوره إلى معطيات المادية التاريخية ورغم كونه اقتفى خطى أستاذه لوكاتش إلا أنه قد تميز عنه بإعادة تشكيل أفكاره ، وبتنظيمها وفق منظور يغلب عليه الإحكام والانسجام ، كما عمل على تأسيس جملة من المفاهيم ك : (رؤية العالم / التماسك / التناظر البنيوي / البنية الدالة / الفهم و التفسير… ) اعتمدها كركائز لبناء تصوره النظري .

  • ·       ميخائيل باختيـن:(1895- 1975)

الذي يذهب في كتابه ” الكلمة في الرواية ” إلى أن هذه الأخيرة هي تنوع كلامي اجتماعي منظم تتباين فيه أصوات فردية متعددة ، ويتجسد ذلك التنوع الاجتماعي من خلال وحدات التأليف الأساسية التي تتكون من كلام المؤلف وكلام الرواة وكلام الأبطال ، إذ يكون التنوع الكلامي موجودا في كل وحدة من هذه الوحدات ، وبهذا التنوع تتعدد الأصوات الاجتماعية . وهذا كله تأتى لباختين من خلال تحليله لأعمال الروائي الروسي دستويفسكي ( الفقراء / الإخوة كرامازوف / الجريمة والعقاب…)[7].

   هكذا عرفت الدراسة الاجتماعية للأدب اكتمال صرحها مع هؤلاء الرواد على الرغم من الانتقادات التي وجهت إليهم ، فالبنيوية التكوينية أصبحت تدخل في كل شاردة و واردة تتعلق بالنص الأدبي ،واعتقد الباحثون عندئذ أنها قد جاءت بالمفتاح السحري لحل كل شفرات الأعمال الأدبية ، ولم يعد أحد يعتبرك باحثاً أدبيا إن لم تذكر مصطلح ” رؤية العالم ” و ” الفهم و التفسير ” عشر مرات في الصفحة الواحدة من مؤلفك .

عزيز جيلالو

باحث مهتم بالنقد الأدبي



         ª  ظهرت في نهاية القرن 18 و بداية القرن 19، أثرت في علم الاجتماع وتطوره، إذ دعا روادها (إدموند بيرك 1727- 1797 / جوزيف دي ماستر 1754-  1840 / لويس دي بونالد 1754- 1840) إلى نبذ العقل معيارا للحقيقة و للحكم على الأشياء ، داعيـين إلى اتخاذ النقل بدلا منه  ومؤكدين على أهمية الجماعة و الأسرة والقيم التقليدية والاستقرار الاجتماعي محاربين للنزعة الفردية .

[1]  سلسلة ( عالم المعرفة) ” النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس ” ، تأليف : إيان كريب ، ترجمة : د  محمد حسين غلوم ، مراجعة : د محمد عصفور ، العدد 244 ، أبريل 1999 ، ص 269 .

[2]  إشكالية الخطاب العلمي في النقد الأدبي العربي المعاصر” ، الأستاذ: عبد العزيز جسوس ،  ط 1 ، المطبعة والورقة الوطنية الداوديات – مراكش ، ص 61/65 .

[3]  إشكالية الخطاب العلمي في النقد الأدبي العربي المعاصر ، الأستاذ : عبد العزيز جسوس ، ط 1 ، ص ­­66

[4]  نظرية الأدب ، بيير زيما ، باريس 1981 ، ص 81

ª  مدرسة فرانكفورت ( معهد فرانكفورت للأبحاث الاجتماعية ) : تأسست بصفتها مركزا للبحث الاشتراكي في سنة 1923  وهي السنة التي نشر فيها كتاب جورج لوكاتش ( التاريخ والوعي الطبقي ) للمرة الأولى وكانت الموجة الثورية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى قد هدأت وشهدت السنوات التالية ، أولا: بروز ستالين وانحسار المبادئ التي كانت تستند إليها الثورة الروسية ، ثانيا : صعود هتلر لحكم ألمانيا الذي قام بطرد رواد هذه المدرسة الذين أجبروا على الرحيل إلى أمريكا ، وتسبب في مقتل أحد روادها هو والتر بنجامين .

[5]  إشكالية الخطاب العلمي في النقد الأدبي العربي المعاصر ، الأستاذ : عبد العزيز جسوس ، ط 1 ، ص 61

[6] الملحمة والرواية ( دراسة الرواية : مسائل في المنهجية ) ، تأليف : ميخائيل باختين ، ترجمة : د جمال شحيد ، بيروت 1972 ص 457/458.

[7] قضايا الفن الإبداعي عند دستويفسكي ، تأليف : ميخائيل باختين ، ترجمة : جميل ناصف التكريتي ، بغداد ، دار الشؤون الثقافية ،  1986 ، ص 11

تعليق 1
  1. اسماعيل عبد الرفيع يقول

    بعد السلام، تحية للباحث عزيز جيلالو على هذه الدراسة التأصيلية لظهور علم الاجتماع عند الغربيين…
    وأنا أقرا هذه المقالة، تبادر إلى ذهني سؤال مفاده: ألم يستفد الغربيون من ابن خلدون أو العلماء العرب، بصفة عامة، في تأصيلهم لعلم الاجتماع ؟
    مشكور مرة أخرى على هذه المعلومات الثرة…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.