تيمة الألم فـــي كتاب: “تخييل الهجرة السرية” للكاتب عبد النبي ذاكر

1 1٬187

يسعى هذا المقال في عمومه إلى محاولة الإجابة عن السؤال التالي: أين تتجلى تيمة الألم في كتاب “تخييل الهجرة السرية” للدكتور عبد النبي ذاكر؟.

  1. مــــــقدمـــــــــــــــــة

     أصبح الاهتمام في العشرية الأخيرة من القرن الماضي، حسب د: عبد النبي ذاكر، بأدب الهجرة السرية، مدار اشتغال الكثير من الدارسين. ذلك أنه يشكل مادة ونسقا من الأنساق الفرعية في الأدب. كيف لا يكون كذلك، وهو يمتح مواضيعه من الواقع الذي غالبا ما يصفه بأوصاف سلبية مثل: المهيض، وألا مساواة، وإجهاض الحرية، والقمع…إخ. أدى إلى تألم الأديب وتمزقه روحيا وفكريا.

إن المتتبع لأدب الهجرة السرية على اختلاف نصوصه والأشكال التي يتخذها، سيجد أن المعاناة تكون فيه على مستويين:

  • أولا: معاناة المهاجر قبل السفر(الحريق)؛ هذه المعاناة يمكن أن نمثل لها بالفقر وإجهاض حقوق المهاجر في وطنه؛ إذ غالبا ما نجد الفقر، والتهميش، والشقاء والجوع هي الأسباب الرئيسة في اتخاذ قرار الهجرة إلى الضفة الأخرى، إيمانا من المهاجر أن الحياة هناك في مجتمع الآخر نعيم وفردوس.. إنه يؤمن بفحوى الشعارات التي ترفع يوميا في الغرب، وتنادي بالحريات العامة، والمساواة، والعدالة، وحقوق الإنسان. وهلم جرا.

إنه يؤمن، أيضا، أن الدول الغربية كلها أنيقة ونظيفة، وأنها تستطيع تأمين الغذاء والمال لكل شخص يلج إليها، والحال أن الأمر ليس كذلك.

  • ثانيا: معاناة المهاجر بعد الوصول؛ هذه المعاناة يمكن تشخيصها لحظة الانطلاق. وهي ما سماها د: عبد النبي ذاكر بـــــ:(لحظة المغامرة)؛ إنها اللحظة التي يكون فيها المهاجر على برزخ بين الجنة والنار، حيث النار والجحيم تتمثلان في الغرق والموت في مياه البحر، فيصبح الإنسان بذلك طعاما للسمك.

أما الجنة فهي، في اعتقاد المهاجر، الوصول إلى الأرض الموعودة، أرض الخلاص والبركات والخيرات التي لا تنتهي.

أما في ما يخص المعاناة الحقيقية السرمدية؛ فتتمثل في لحظة الوصول(لحظة الصدمة)؛ حيث لا تعدو الفردوس سوى أرضٍ يبابٍ، وجحيم يستقبل أفواج المهاجرين، فتراهم يساقون إليها زمرا زمرا. إنها لو شئت القول سجنٌ؛ فعلى السجين أن يحذر، ويختفي عن الأنظار مئات المرات في اليوم، وأن يستعد للفرار الدائم، ويخشى الظهور والتعقب من الأمن. ولو أن المعاناة تنتهي عند هذا الحد لكان أبسط وأخف، بيد أن الأدهى والأَمَرَّ، أن الفقر، والألم، والجوع، والتهميش الذي دفع بالمهاجر إلى(الهروب) من وطنه، يظل ملازما له، بل أكثر وأشد من ذلك، حيث يضاف إلى المعاناة الاجتماعية والمادية…معاناة نفسية ومعنوية. وهي التي سبق أن أشرنا لها.                             تبقى هذه عموما، أهم الدوافع التي تجعل المهاجر السري، ينتج نصوصا أدبية على اختلاف أصنافها، وأشكالها، وأحجامها، وأجناسها.

 وقد حاولنا من خلال دراستنا لتيمة الألم في أدب الهجرة السرية، من خلال نموذج كتاب:“تخييل الهجرة السرية” للدكتور عبد النبي ذاكر، أن نقف بالدرس، والتحليل، والتفصيل على هذه الموضوعة(الألم)، التي أراها هامة في الكتاب. فلولا الألم ما أنتج هذا الأدب الرائع، الذي لا يخشى سلطة أحد، ولا يستحيي من عرض مواقفه، إنه طفرة جديدة ونوعية شكلها على باقي الأجناس الأخرى.

  1. “كاد الفقر أن يكون كفرا”

1– فــــــــــــــقـــــــــــــر الوطــــــــــــــــن وصـــــــــــورة الهنــــــــــــــاك

        إذا كان العرب في عصر ما قبل الإسلام (العصر الجاهلي)، معروفين برحلتي الشتاء والصيف، إلى الشام واليمن، فإن العشرية الأخيرة من القرن الماضي، يقول الدكتور عبد النبي ذاكر، قد عرفت ظهور أدب أطلق عليه اسم أدب الهجرة السرية“. وإذا كانت الرحلة تعني السير والانتقال والوجهة أو المقصد الذي يراد السفر إليه”؛ أي الانتقال من نقطة البداية إلى نقطة نهاية هي الهدف، فإن الهجرة السرية هي انتقال من مكان معلوم/وقد يكون مجهولا، إلى نهاية مجهولة دائما، لا معلوم.  ذلك أن الألم والتأزم والتمزق…الذي يستكين بدواخل المهاجر، إنما هو نتاج الفقر المدقع الذي يحسه ويعيشه، هي إذن، أحاسيس”حرقة البحث القاسي عن مكان آخر تحت سماء أخرى وراء مكان متأب وسماء عصية الغيث والإغاثة”. هكذا يصبح التنقيب عن متنفس آخر جديد أمرا ضروريا، ذلك أن”ضيق الداخل- مهما رحب- وشساعة الخارج- مهما ضاق”، يصبحان طيفان متلازمين، وحافزا للهروب من لعنة الوطن، وباعثا لاكتشاف حياة من يعيش وراء جبل طارق.

يحق لنا إذن، أن نتساءل: ما الذي نحث هذه الصورة الإيجابية عن الهناك باعتباره”فسحة أمل وأمان وسعادة وعيش كريم”؟. وإلى متى ستبقى هذه الصورة عالقة بأذهان المهاجرين السريين؟.       صحيح أن الهجرة هي نوع من الحركة، وهي أيضا مخالطة للناس والأقوام، وهنا تبرز قيمتها الأنُثروبولوجية، في وصف ثقافة الآخر، ورصد بعض من جوانب حياة الناس اليومية هناك. بيد أن معاناة المهاجر السري، تبقى واحدة، وإن تعددت وجهات”الحريق”، الذي يكون غالبا من وراء الفقر.

2– مـــــــــرارة الهـــــــــــــنــــــاك وفــــــــقــــــــره

 قبل العبور إلى الهناك، تبدأ معاناة المهاجر بدءًا من “الليلة الموعودة”، حتى وصول الضفة الأخرى، حيث يكون الانتظار المصحوب بالتوجس والترقب والخوف قبل الانطلاق نحو المجهول، سمة تطبع نفوس كل المهاجرين أفرادا ومجموعات، كبارا وصغارا، رجالا ونساءً، مثقفين وأميين…إنه الألم الذي ينزل من السماء، ويخرق الأرض، ويأتي من كل مكان، ليشق الصدور دون إذن أحد. ينضاف إلى ذلك كله “سلطة المهرب”، الذي يعد  بمثابة المخلص والمنقذ، رغم أنه”رجل شرس ومخيف”. بعد مرور المهربين والمهاجرين من ألوان القهر والألم والحرمان… وبعد العبور إلى الهناك، إن حدث، تبدأ أصناف أخرى من الألم والعذاب، تارة تتخذ أشكالا رمزية: احتقار ذات المهاجر، رفضه، نعته بالإرهابي، التهديد بتسليمه إلى السلطات، نعته بالكلب، إجباره على الانسلاخ من هويته… وتارة أخرى تتخذ هذه أشكالا عنيفة: الضرب، مضاعفة العمل بأقل أجرة ممكنة، أما النساء فتمارس عليهن أشكال أخرى تمس بشرفهن، إضافة إلى هذا الذي ذكرناه.

 ويبقى الألم بجل ألوانه ومظاهره، السمة المميزة والطابع الذي تصطبغ به الذاكرة والذات سواءً في حالات وعيها أو لا وعيها، في اليقظة أو في المنام.

       تحصيلا لحاصل، يصبح أدب الهجرة السرية، الابن الشرعي لموضوعي الفقر والألم. إنه طائر فينيقي يبعث من بطون الجوعى والمقهورين المعذبين.

3– الشــــــعـــــراء والأدبـــــاء يــكذبـــــون

لطالما تبجح الشعراء والكتاب والأدباء بجمال ثقافة الغرب وما تزخر به من امتيازات ولوحات فنية طبيعية، بيد أن الواقع غير الذي يصفونه، فهذا رشيد نيني يرى أن الواقع لا يطابق تمثلات الحلم. فضلا عن ذلك فباريس التي في القصائد ليست هي باريس التي فوق الأرض. الشعراء يكذبون أحيانا بشكل مضحك… في باريس تستطيع أن تبيع وتشتري كل شيء: الجنس، الثياب، العطور، بطاقات الإقامة، جوازات السفر، الحشيش…”.

هكذا يستحضر كتاب د: عبد النبي ذاكر”تخييل الهجرة السرية”، هذه المفارقة الغريبة بين حياة الهنا والهناك، من خلال استحضار تجربة رشيد نيني المريرة؛ حيث يرى هذا الأخير حقيقة الأضواء الباهرة تخفي وراءها واقعا موبوءا. فوراء الأضواء الباهرة، تجلس نساء عاريات يلوحن للمارة ويغمزن بشكل داعر.. ويرى، من خلال تجربته أن أغلبهن يصلن من أوروبا الشرقية: روسيات، بولونيات، تشيكيات…

        إن الواقع ليس هو الخيال؛ فالتجربة وحدها هي التي تستطيع الحكم على مرارة الهناك، “أنا لا أعرف لماذا تغنى الشعراء بنهر السين. هذا الواد النتن الذي يجرف كل شيء في طريقه نحو مصبه الكئيب. على حافتيه يتمدد المعدمون واللصوص والباحثون عن إبرة ملوثة ينبشبون بها سواعدهم العجفاء بحثا عن انخطافة ما وسط عاصمة النور هذه. أتذكر نهر أبي رقراق، الأنقى بين كل الأنهار. أتذكر عندما كنت أجدف بجسمي النحيل قاطعا النهر بألمان وإنجليز. نرمي شخوصنا في الماء بحثا عن السمك الكوال الكسول الراقد في قعر النهر مثل كنز قديم. نشرب الشاي ونرى أضواء حسان والوداية وبيوت الملاح الغارقة في الحزن”. عادي إذن، أن يكون الشعراء والأدباء يكذبون، في نظر المهاجرين السريين، ذلك أن الألم والعفن والفقر والتمزق، الذي ألفوه هناك لم يكن منتظرا.

لقد حظيت باريس على سبيل الذكر لا الحصر، بالوصف الدقيق المشبع بالإعجاب والاستحسان والتفصيل على العواصم الأوربية الأخرى. يقول أحد الدارسين:” فيها كل ما ينزع إليه ابن آدم من جد ولهو ونشوة وصحو ولذة وطرب وعلم وأدب، وحرية في دائرة النظام لا تحدها ولا تقدرها يقود. باريس عاصمة الدنيا، ولو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس”.       

لقد وصف الشعراء والرحالة العرب جمال باريس ووقفوا عند حدائقها، كحديقة ليكسمبور، التي تتوسطها بركة مشهورة ذات نافورة. إنها مرتفع للأطفال اللاعبين بمراكبهم الصغيرة في مياهها.

ومن المفارقات أن بعض الرحالة يصفون المرأة الفرنسية بالنبل والطهر والعفاف، ويصفون باريس بأرض العلم والمعاهد والمتاحف، والكليات، والمستشفيات….

بيد أن الغريب أن معظم أدب الهجرة السرية يقول عكس ذلك، ونمثل لذلك للتجارب المريرة التي وظفها د: عبد النبي ذاكر في كتابه الذي نشتغل عليه، وتجارب أخرى منها: “سماسرة السراب” لـــــــ: بنسالم حميش، و”فراق طنجة” لــــــ: عبد الحي المودن، و”أحلام هاربة” لـــــــ: عبد السلام الفيزازي…وغيرهم كثير.

 

  • انمــــــــــحـــاء الهـــويـة وتــــقـمص أخـــــــــــرى

 

1-المـــــبحـــث الأول: تــــيمة الألم فـــــــــــــي أدب الـهـــــجــــــرة

يخوض أدب الهجرة السرية في قضايا التهميش مغامرة غير مألوفة العواقب، مغامرة التحدي، ولاسيما أن المهاجر سيكون في مواجهة سلطات متناقضة، من المهمشين والمهمشين معا، أحدهما لأنه لا يريد الكشف عن جرائمه المقترفة، والآخر لأنه يخشى الفضيحة التي يظل غارقا فيها، وتظل قابعة في دواخله مرتحلة معه.

 لا نكاد نجد عملا أدبيا من إنتاج مهاجر سري إلا وتحضر فيه صورة من صور التهميش الكثيرة، ويختلف التعاطي لهذه الصورة/ التهميش بحسب خصوصية كل منهم، وتبعا لمدى تأثرهم بما يعيشونه ويرونه أو يتناهى إليهم من جريمة التهميش المتكاثرة في كل مدينة.                                إن فقدان الثقة في كل شيء، وبكل شخص، وتفضيل الانعزال عن الآخرين، والنكوص والتقوقع في جحر يرفض ساكنه أي بارقة أمل بتحويله إلى عش، وتهربه من كل مساعدة قد تقدم للمهاجر  في هذا الفضاء من طرف الأجانب، كل ذلك ناتج عن الألم الذي يسكن دواخله الممزقة.

كما يمكن القول إن فقدان الثقة، يبدأ قبل لحظة الانطلاق والمغامرة، أي منذ التفكير إن شئنا في الهجرة نحو الفردوس المتخيلة، ذلك أن الحكايات التي تروج لها الذاكرة الشعبية، من أخطار البحر ومعاناة المهاجر، وما يتعرض له هذا الأخير من طرف السلطات المغربية أو الغربية في حالة عدم النجاح في الوصول إلى الأرض الموعودة…كلها تشكل استشكالا للمهاجر، ومعاناة نفسية قبل أن تكون مادية أو جسدية.. وهلم جرا.

إن أهوال البحر لطالما ترددت في كتابات العديد من المهاجرين السريين، حيث يصفون معاناتهم وسط البحر، وخوفهم، وجوعهم، وآلامهم، وعدم الثقة به. وهنا نتساءل هل كانت هذه السمة أيضا تطبع كتابات الرحالة القدامى؟.

        ليس هدفنا من خلال طرح هذا السؤال أن ننبش ما جادت به قرائح الرحالة العرب، والوقوف على ما وصفوا به الآخر وبلاده، فما أكثر هذه النماذج في التراث العربي الإسلامي. هدفنا الأساس إذن، أن نتلمس أوجه التلاقي والاختلاف بين أدب الرحلة، وأدب الهجرة السرية، على أساس ما قلناه منذ البداية، من كون كل من الرحلة والهجرة السرية، تقومان على الانتقال من مكان إلى آخر.

أما في ما يخص إجراءات السفر، فقد كانت تنجز، في أجواء غير مريحة وعادية. حيث يطبعها الخداع والاستغلال وغياب التسامح بين المهاجر والوسيطة (الباطرون) الذي يرتبط به مصير المهاجر. هذا كله إلى جانب ما قد يتعرض له من تحرشات ومقالب وعبودية.

أما الأكل، فقد وصف بكونه قليلا وسيئا، وغير كاف. ولعل الألم الأكبر يكون على متن القوارب الشراعية المتآكلة، التي تأزم المهاجر قبل وصوله، إنها قوارب ضيقة ذات روائح كريهة ونتنة..

إلى جانب التهميش الذي نجده موضوعة من الموضوعات التي يعالجها أدب الهجرة السرية، نجد موضوعة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها؛ إنها تيمة الجوع، هذا الأخير الذي يحضر بقوة، وإن اختلفت طرق معالجته، أو درجة وروده أوحدته من شخص لآخر.

     لا يخفى أن أدب الهجرة السرية، يعرض ويدين ما يمارس من عنف على المرأة المهاجرة عبر إظهار الوحشية المدمرة، وتعرية صور التهميش والعنف المتعددة، سواء كان ذلك عن طريق تواطئها مع جلاديها ضد نفسها وبنات جنسها، أـو من بنات جنسها ضدها، أو من المحيطين بها، الذين لا يستطيعون النظر إليها إلا عبر بوابة الجسد، وأنها معبر أوحد للجنس والشهوة، لا غير. أو السلطات القامعة التي تقع عليها مسؤولية حماية المرأة من نفسها والذئاب المحيطة بها.

2- لــــــــواعـــج الحنــيــن للــوطــــن

الحنين إلى الوطن فطرة فطر الله الإنسان عليها، فهو معلق بوطنه، متشوق إليه، وبخاصة حينما يبتعد عنه طوعا أو قسرا (كالمهاجرين) إذ تراه لا تغيب عن ذاكرته ذكراه، ولا غرابة في ذلك، بل الغريب ألا يحن الإنسان إلى مسقط رأسه، ولا يبالي بابتعاده عنه.

وإذا كان حال الإنسان العادي كذلك، فإن المهاجر السري الذي أخرج قسرا من موطنه إما بسبب: الفقر أو الجوع، أو البطالة، والحرمان والإحساس بالضيق وعدم المساواة والحرية…أشد حنينا لوطنه، وبذلك يكون الأدب بجل تلويناته الوعاء القادر على تحمل هذه اللواعج، فأفرز ذلك الشاعر، والروائي، والقاص، والممثل…إلخ.

إن انسلاخ المهاجر من هويته ولغته، يجعله يصير بذلك ببغاءً يكرر الأصوات قصد الظفر بقطعة خبز، آنذاك تمتلكه الرغبة في العودة إلى الوطن. وعندما يصبح كل شيء غريبا في وجه المهاجر، ولا يجد أناه في أنا الغير، يصبح أشد إحساسا بالعودة إلى وطنه.

و”إذا كان هاجس الموت قد ذكر بعضهم بالوطن، فإن منهم من كان يتساءل مستنكرا عن أسباب السفر، وكأنه يعاتب نفسه على قراره، ويسليها بفلسفة بسيطة لهذه العلاقة الغريبة بين الدعوة للسفر، والحنين إلى الوطن، فيقول: لماذا نسافر؟ ولماذا نرتحل عن أرض كل حبة من حبات رملها تروي قصة من قصص تاريخنا المجيد؟ وحكاية من حكايات تراثنا الخالد…؟. الشاعر الذي غضب يوما وقال:” سافر تجد عوضا عمن تفارقهم” لم يكن صادقا مع نفسه. كان جبارا..، وعنيدا، وقاسيا! لقد ضاق ذرعا بمن حوله فأطلق حكمه على العموم. نحن نرفض هذا القول عموما، لكننا نقبله نسبيا حسب الحالات والظروف التي تعتري الإنسان ساعة يأس…”.

        وفي الغربة حين ينأى المهاجر عن وطنه، ويستقبل مجتمعا آخر جديد، يصبح الحنين إلى الوطن ضرورة، وتصبح ذاكرته مؤرقة؛ إذ يذكر فيه أهله، وصديقه، وأحباءه، بل حتى ترابه، والعجيب أن المهاجر يتذكر الوطن رغم أن أمامه، أحيانا، ما يمكن أن ينسيه وطنه، وأهله، ولو لوقت معلوم. فقد يقف أمام الجميل المدهش والغريب، فما يلبث أن يتذكر الوطن، والأهل.

        إنها لو شئنا سميناها رغبة دفينة في نفسه تتلخص في رغبته لأن يكون معه من يحب. ويبقى السؤال المطروح: هل هذا الحنين للوطن مرده، حقا، إلى رغبة العودة إلى الوطن لرؤية الأهل بفعل الاشتياق واللوعة والصبابة، أم أن الأمر لا هذا ولا ذاك؟. وإنما هو فعل بحث عن الهوية المسلوبة والتاريخ..

إنها رابطة الوطن والتراب في النفوس، لا تحلها المتعة أو الاسترخاء في جنان الهناك.

وربما كان السبب في ذكرى الوطن عند رؤية الجميل، والغريب والمدهش في الهناك ما طبع الإنسان المهاجر من حب المقارنة بين ما لديه، وما عند الآخر، فعندما يرى المهاجر ما يعجبه/ أو لا يعجبه مثلا؛ فإنه قطعا سيتذكر ما لديه في وطنه، ومن هنا يأتي ذكر الوطن.

وربما يكون سبب ذلك راجعا إلى عدم إيجاد المهاجر لسانا آخر مثله يكلمه ويفهمه، فلا أهل ولا صديق، فكيف يكون الناس في بهجة وسرور وعيد… والمهاجر لا بهجة ولا سرور ولا عيد له…

        وربما يكون الجواب هو الصدمة الثقافية والفكرية والانبهار، الصدمة التي لم يكن ينتظرها هناك. فطبيعي أن يحن عندما يجد فردوس الهناك، وليست سوى جحيما من الفقر المدقع، والجوع والمعاناة والألم والتمزق.

  1. خـــــــــاتــــمــــــة

        إن تيمة/موضوعة الألم في كتاب تخييل الهجرة السرية، من التيمات الأساسية التي تتغذى بها نصوص أدب الهجرة؛ ذلك أن” التخييل فيها ارتبط ارتباطا عضويا ببلاغة الألم، التي وظفت شعرية القسوة، لإفسال الملامح الأسلوبية لخيبة الإنسان وهو يمر بإحدى أحلك التجارب الوجودية القاسية”. وبناءً عليه نجد تلك النصوص تستثمر صورا ومشاهد تغترف من حقل الألم والرعب، والأمل والخوف. أما على مستوى بناء هذه النصوص الإبداعية السردية، كما يذهب إلى ذلك الدكتور عبد النبي ذاكر، فإن ما يتحكم فيها هو:                                            

1_ لحظة تأمل واقع الذات قبل السفر؛

2 _ لحظة تأمل معاناة الذات المهاجرة إثر مجابهة بحر الموت؛

3 _ لحظة خيبة أفق الانتظار بالنسبة للناجحين من الموت.

إن ما يربط بين هذه المستويات جميعا هو ألم المهاجر وتمزقه الداخلي قبل السفر، وفي مرحلة السفر، ثم لحظة الصدمة؛ التي تشكل ما يمكن أن نسميها بلحظة كشف الستار أو إزالة القناع. كيف ذلك؟. بحيث لا تعدو أن تكون الفردوس المتخيلة في الأحلام سوى كوابيس حقيقية من الألم والمرارة والفقر.

هكذا يمكن القول إن ما “كان وراء الهجرة السرية، باعتبارها فعلا رحليا قسريا، هو حافز أساسي لعب دوره كعلة للتحرك باتجاه ضفة بلا ضفاف، ذاك هو غياب التناغم الأنطولوجي بين ما تطمح إليه شخصية المهاجر السري-والمهاجر عموما- وبين ما يتيحه واقعه من إمكانات قاصرة عن تلبية مطامحه”. لقد اقترنت هذه العلة- علة  السفر بالبحث، دائما، عن فردوسية المكان- محاولة دفن مرارة الوطن، المتمثلة في الفقر والألم والمعاناة عموما وبناءً عليه، يمكن اعتبار أمر الهجرة إجمالا هو إحساسا بفراغ داخلي أنتج إحساسا أشد يتمثل في فقدان المهاجر الثقة في وطنه ونفسه، بل هو إحساس بفقدان الهوية.

 

المصادر والمراجع

1 _ نيني، رشيد: يوميات مهاجر سري، الرباط: منشورات وزارة الشؤون الثقافية – ط1، 1990.ط2، منشورات عكاظ- الرباط 2006.

1 – ذاكر، عبد النبي: تخييل الهجرة السرية، المركز المغربي للتوثيق والبحث في أدب الرحلة، ط1، فاس.

2 _ محمد يوسف نواب، عواطف: الرحلات المغربية والأندلسية مصدر من مصادر تاريخ الحجاز في القرنين السابع والثامن الهجريين، دراسة تحليلية نقدية مقارنة، رسالة ماجستير في التاريخ الإسلامي، جامعة أم القرى، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، السعودية/مكة، إشراف د: فواز بن جنيدب الدهاسر، 1991.

3 _ بن أحمد بن حامد آل حمادي، عبد الله: أدب الرحلة في المملكة العربية؛ بحث مقدم لنيل درجة الماجستر، كلية اللغة العربية، جامعة أم القرى، قسم الدراسات العليا العربية، إشراف د:محمد صالح جمال بدوي، السعودية، 1997.

4 _ محمد فهيم، حسين : أدب الرحلات، مجلة عالم الفكر، ع 138، 1989.

5 _ آل محمد، حسن: الرحالة المسلمون في العصور الوسطى، دار المعارف، القاهرة، 1945.

 

تعليق 1
  1. امال يقول

    مشكور على مجهوداتك .بالفعل هدا ملمسناه في كتابه هده السنة ويريدنا ان نقوم بمقارنات في كل الجوانب بين كتابه هدا .تخييل الهجرة السرية مع مقامة حديث عيسى ابن هشام .للمويلحي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.