مدرّسون أمسكوا بتلابيب ذاكرتي(2)

0 342

الرابعة إعدادي :يشير التاريخ هنا تقريبا إلى الموسم الدراسي(1984 -1985) ،أتذكر كاللحظة أستاذ مادة التربية الإسلامية،بمعطفه الطويل الذي يلف جسده الضئيل طيلة فصل البرد،حيث اتسمت مراكش وقتها بشتائها القارس.يأتي كل صبيحة شبه نائم،ممددا على طريقته البهلوانية، فوق دراجته النارية من نوع”موبيليت عسلية”،المعروفة آنذاك،في الأوساط الشعبية بصلابة عودها.لايمكنه، الشروع في الحصة،قبل توجهه إلينا باستفساره الأساس: هل تابعتم بالأمس النشرة الإخبارية؟غالبا ماكان جوابنا إيجابا،مادامت الأسر كانت تتحلق بمتعة حول التلفيزيون،الذي شكل وسيلة الترفيه اليتيمة،كما أنه لم يكن ضيفا ثقيلا جدا وفارغا، كما وضعه الآن، بل يبادر إلى زيارة خفيفة، تمتد من الساعة السادسة ونصف تقريبا حتى الحادية عشر.يسألنا، عن رأينا بخصوص قضايا الساعة،ثم ينتقل إلى الدرس.جمع بشكل عقلاني عميق،بين الدين والماركسية،دائم الاستشهاد بحسن حنفي،محلقا نحو إمارة عمر بن الخطاب وعدالته المثلى، في نفس مقام إشادته بالمواقف التاريخية لكنيسة أمريكا اللاتينية،ودورها في مناهضة الديكتاتوريات ومساعدة الفقراء. دروس، في غاية الإفادة والمتعة والجدة، قياسا لأعمارنا. أيضا، اشتهر لدينا،بوصف “الإمعة”،بحيث لما يقوم تلميذ إلى السبورة، بهدف تقديم عرض حول قضية من القضايا،وحينما ينتابه شيء من التلعثم،يبادر الأستاذ في الوقت المناسب،معيدا له توازنه،مهدئا من روعه بابتسامة حكيمة يردفها بجملته –الترياق :اعتبر هؤلاء يابني-أي نحن المستمعين-مجرد إمعات، وأنت أفطنهم.

كذلك،لايمكنني أن أنسى بالعودة إلى السنة ذاتها،محمد الأنصاري مدرس اللغة الفرنسية :شخص يعكس أقصى درجات الأناقة والرقي،وإن أفقده الغضب أحيانا صوابه،فيخرس شغبنا على الفور بكلمة أو كلمتين من جوف القاموس الشعبي المراكشي المسمى ب”التلصاق”.قد يزداد نفوره،إذا أصدر أحدنا بصيص قهقهة،جراء الحمولة المستفزة، لفكاهيته السوداء.كان يتكلم الفرنسية بطلاقة واسترسال،مانحا المخارج حقها من الإشباع النبري والدلالي،مشيرا علينا بضرورة الانكباب على سماع أشرطة جاك بريل وشارل أزنافور وإيديت بياف.بيد أنه، عوض هؤلاء،سيدندن لحظات صمته شاردا لدقائق طويلة خلف النافذة المطلة على ساحة مدرستنا، بالمقطع الشهير،لجون سلفر: خمسة عشر رجلا،ماتوا من أجل صندوق،آه آه آه ! في إحالة طفولية واضحة،على سلسلة الرسوم المتحركة”جزيرة الكنز”،التي شكلت لنا، إلى جانب “سندباد” و”غرندايزر”،فسحة استراحة مسائية لامناص منها،بعد الرجوع من المدرسة وقبل الانكباب على إنجاز واجبات يوم مدرسي جديد.

السنة الخامسة :أو الأولى في سلك الثانوي،كانت حبلى بأشياء جميلة :سن المراهقة،أولى قصص الحب العذرية،أغاني وأفلام عبد الحليم حافظ،البطولة المدرسية في كرة القدم عشية كل سبت،الخرجات الجماعية بين الفينة والثانية إلى البساتين والحدائق،حيث كان صديقنا المكنى ب”الحاج” والملقب ب”شتيليكي”لأنه أظهر دائما براعة في خط الدفاع على منوال المدافع الألماني المشهور وقتها،يتحفنا على أوتار قيتارته بأغنية”حكمت لقدار”الحزينة لجماعة لرصاد المراكشية،ثم اكتشافنا لمتعة القراءة، نتيجة العوالم الواسعة التي فتحتها تجربة المكتبة المتنقلة،حيث تعرفنا صدفة على روائع صنع الله إبراهيم والطيب صالح ومحمد زفزاف وتوفيق الحكيم وكاتب ياسين وكافكا والعقاد وجبران وتولستوي  والخبز الحافي لشكري، التي تبادلناها سرا تجنبا لأعين الوشاة بسبب قانون حظرها،كما استمعنا خلسة في ساعات متأخرة من الليل، على صوت خافت جدا،لأشرطة مارسيل خليفة والشيخ إمام وأحمد قعبور وسعيد المغربي… .

تمثلنا لأول مرة كنه وماهية،مادة التاريخ،باحترافية معرفية على يد الأستاذ الدربوش مبارك.من الصدف العجيبة،أن سيمياء وجهه تنحو منحى ارستقراطيا،تماما كالمؤرخ عبد الله العروي،مشتركا معه في كثير من توقد نظرته.لحظتها،لم تكن لنا أدنى إشارة عن الأخير،إلا عندما أكد لنا الأستاذ،أن تلاميذ في مرحلتنا،عليهم أن يبدأوا بقراءة نصوص العروي والجابري.لقد اجتمعت لدى صاحبنا،مواصفات ستمنحه حضورا مميزا. متمكن من تخصصه،ذكي وجدي،ثم جذاب. هكذا، كلما أتينا على سيرته في تجمعاتنا، إلا وتستبق التلميذات نحو طرح السؤال التقليدي : أمتزوج هو أم ليس بعد؟بعد نميمة طويلة،يخلصن إلى أنه حتما لازال عازبا،لأن أصابع يديه تخلو من خاتم !نتغامز نحن التلاميذ فيما بيننا،متفقين بكيفية أثيرية على القصد من حديثهن.لكن،خلال  أول لقاء به بعد انصرام إحدى العطل ،وقع طارئان اعتبرا في سياقهما مهمان.الأول،تكدر معه صفو الإناث،والثاني أدخل بهجة التشفي إلى قلوب، من جعلهم باستمرارموضوع سخرية أمام باقي الفصل،جراء انتقاداته اللاذعة للغتهم العربية الركيكة :بدت أنامله اليمنى مزينة بخاتم زواج ذهبي أصفر،منهيا قطعا هيام الحالمات به،بالتالي لم يعد مشروعا، ممكنا لبعضهن.ثم مع نهاية الحصة،بينما يعلو صراخه في وجوهنا كي نستعد للمقبل،قال :”ينبغي حتما، أن أقلِّب الدفاتر”،عوض “أراقب أو أعاين “،لأن “أقلِّب”كلمة تنتمي للغة الدارجة. انبعثت ضحكات في الصفوف،بينما غطت حمرة وجهه  نتيجة شعوره بحرارة الزلة،فزم شفتيه وخرج.في نهاية المطاف،ماذا بوسع الواحد أن يقول،فقط لكل فرس كبوة؟.

على النقيض من الوضع الاعتباري،الذي حظي به مدرس الاجتماعيات،كان زميله في اللغة العربية أقل شغفا بواجبه،لكنه أكثر اهتماما بتلميذات الفصل،بحيث لايتوقف صاحب”رأيت وردة ترقص في الحفل”و”راقصت وردة في الحفل”،الواردتين على لسانه بمناسبة وغير مناسبة،عن الانسياق وراء سيل من النعوت،تعكس ضمنيا طبيعة تقييمه لمحاسن كل واحدة،مثلا إذا كانت قصيرة ومكتنزة،سيلجأ إلى صيغة((يالله أصويصيطة-تصغير للصوصيط “النقانق”،المنيدة “-تصغير للمونادا -تشبيه ضمني بقاروة المشروب الغازي)) ،أو((للا الصفصافة، البلوطة، النوارة))،إن بدت صاحبة قوام طويلة….كان ضعيفا في مادة النصوص والنحو،مقابل تميزه في درس المؤلفات، فشذ ألبابنا وحواسنا طيلة السنة أثناء تحليله لمؤلف توفيق الحكيم “يوميات نائب في الأرياف”،إلى درجة أنه بعد مرور الآن مايقارب ثلاثين سنة، على ذلك العهد،لازلت بين الفينة والثانية أعاود قراءة العمل، ساعيا كي أبعث من رقادها ذات أجواء النص، كما ألهمنا إياها.أيضا،مازاد من متعة حصة المؤلفات،كونها الموعد الأسبوعي،الذي نفعل فيه عمليا شعار الخزانة المتنقلة،مما سيمنح كل تلميذ فرصة جديدة كي يعاشر كاتبا مغايرا لسابقه. 

يستحيل،أن أشرد نحو تلك السنة دائما،دون الوقوف عند اسم وهيئة المشرفة على مادة اللغة الفرنسية. إنها الأستاذة نوال، الذكية والجميلة والفاتنة.ربما،معطيات كانت كافية،كي يبدي نحوها كل الفصل بما في ذلك رؤوس العصابة المارقين،نوعا من التهيب.عينان تشعان  إغراء،ملامح غجرية وجسد ناغل. شاعرية،سيكتمل ألقها مع سلاسة فرنسيتها،لذا كان طبيعيا أن نتابع معها سطرا بسطر فقرات رواية “le lion “للكاتب الفرنسي ذي الأصول الأرجنتينية،جوزيف كيسيل.

السنة السادسة :لم يفصح خلال أي لحظة من اللحظات عن عقيدته السياسية،لكننا أدركنا عبر إيحاءات انتقاداته الدقيقة للوضع العام،أنه ليس  بالمدرس العادي،بل حتما قد خبر تنظيميا ونضاليا الإطارات الطلابية والنقابية والحزبية،سنوات السبعينات والثمانينات.جسم نحيف،جمجمة فاضت نسبيا عن حجمها المفترض،شارب كث وأشعث أخفى كليا شفتيه الرقيقتين،ملامح أقرب إلى إعلان الضجر،مدخن شره،حد اصفرار أظافر يده اليمنى.هكذا، كان أستاذ اللغة العربية،الذي اكتشفنا معه لأول مرة بارت ولوكاتش ولوسيان غولدمان وجدانوف وباختين والشكلانيين والأدب الواقعي،ثم بالأخص الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي.

أما أستاذ الانجليزية،فقد كان بوهيميا بكل ماتحمله الكلمة من دلالة،انتمى قلبا وقالبا،إلى الغيفاريين والنموذج الطليعي لسنوات الستينات.شعر طويل مسدل إلى الكتفين،لحية كثيفة،سراويل جينز بغير لون جراء طول الاستعمال، أحدية رياضية،ونظارة شمسية سوداء مستمرة فوق عينيه،صباحا ومساء.لم يفوت أية فرصة، كي يحثنا على إدمان سماع موسيقى بوب مارلي وحفظ كلمات أغانيه،كمدخل أساسي حسب وجهة نظره لتعلم الانجليزية،مضيفا بأن زعيم الريغي، يعتبر أفضل من يطرب بتلك اللغة.

مستوى الباكلوريا:عبقرية عمر لمحمود عباس العقاد،والإيديولوجية العربية المعاصرة لعبد الله العروي،بالرغم من ترجمتها العربية السيئة،المتداولة وقتها،ورغم تباعد الأفقين،فقد توفرت لدى أستاذ العربية،مايكفي من المهارات العلمية والبيداغوجية، كي ييسر لنا الطبقات المفهومية العويصة لبناءات نظرية من ذلك المستوى.تلمسنا معه، المرجعيات الثاوية الموجهة لتأويلات العقاد، لاسيما قواعد علم النفس الايطالي لومبروزو،أو تجليات حالات الوعي الثلاثة للفكر العربي المعاصر، كما سبر أغوارها العروي.

إذا تصادف وشاهدت أستاذ الفرنسية للوهلة الأولى،تعتقده إفريقيا من جنوب الصحراء،كأنه مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال، يعيش بين ظهرانينا. بشرة موغلة في السواد،أسنان مرتبة كالبنيان المرصوص، تشع بياضا.يخاطبنا والخجل باد على محياه،مما يضيع جوانب شتى من غنى وزخم مايأتي به إلينا. تأثرا به،بدأت أقرأ صمويل بيكيت ويوجين يونسكو وجان جينيه،بفضله وضعت اليد على كتابات عالمية من قبيل : في انتظار غودو والمغنية الصلعاء ووحيد القرن كما اكتشفت معه مناحي الفلسفية الوجودية… .

بعد سنوات طويلة،ومرور مدة طويلة على زمن هؤلاء،وبعد تجارب أخرى، ولجت المدرسة ثانية كمدرس هذه المرة،بدا إلي من الساعات الأولى،أن التلميذ لم يعد هو التلميذ، والمدرس صار غير المدرس، والمدرسة تخلفت عن المدرسة بل الأفق الذي توخيناه صغارا وشبابا تحت كنف هؤلاء، لم يعد  هو الأفق.    

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.