خوسي ألبرتو موخيكا، رئيس الفقراء

0 406

في سياق انشغال الإعلام العربي والدولي،بالقضايا البارزة، المتسارع إيقاعها،التفت مع ذلك اهتمامه، نحو خبر”صغير” ربما يبدو للكثيرين تافها،يدخل في خانة النكت والطرائف،يبتغي تطرية حواسنا، وقد صدئت حقا نتيجة تداعيات السعر الذي ينخر لباب العالم.

يتعلق الأمر،بمبلغ مالي يقارب مليون دولار،عرضه شيخ عربي ثري،على رئيس الأوروغواي “خوسي ألبرتو موخيكا كوردانو”،المشهور بزهده المطلق حيال متاع الدنيا،فحظي بلقب رئيس الفقراء وأفقر حاكم معاصر،مقابل بيعه سيارته من نوع”الفولكسفاكن”،خنفساء زرقاء،يعود صنعها إلى سنة1987،اشتراها موخيكا،قبل عشر سنوات،ويقدر سعرها حاليا ب1200 دولار.

الرئيس المتشبع بالقيم الشيوعية،الذي قاتل الديكتاتورية طويلا في صفوف منظمة “توباماروس”الثورية اليسارية،المستلهمة سنوات الستينات للمشروع الكوبي،قبل انتقاله أواسط عقد الثمانينات إلى العمل السياسي،سيرفض الصفقة المغرية،مجيبا الثري العربي، بقوله :(( لن نبيعها أبدا،سوف نرفض أي عروض لشرائها،لا أعلم ما إذا كانت السيارة ستباع يوما،لكن ما أعرفه هو أنه مادمت حيا،فستبقى في المرآب)).

موخيكا هذا،ليس بأسطورة ورقية،أو يوتوبيا نظرية، أو حكاية حالمة من حكايات عام الفيل،فالشيخ البالغ من العمر تسع وسبعين عاما، ،والمنتهية ولايته رسميا، شهر مارس المقبل، الذي رأى فيه عرب أمريكا الجنوبية،عبر تصريحاتهم، تجسيما حقيقيا متحركا لعدالة الخليفة عمر بن عبد العزيز، هو ذاته وزير الثروة الحيوانية والسمكية سنوات(2005-2008 ) ، وعمل بعدها في مجلس الشيوخ،ثم أخيرا فوزه برئاسة الأوروغواي سنة 2010 . موقع،سيمنحه مساحات واسعة كي ينحو ببلده صوب إصلاحات عميقة.النتيجة،يشير مؤشر منظمة الشفافية العالمية،إلى الانخفاض الكبير لمعدل الفساد في الأوروغواي،وباتت تحتل المرتبة الثانية بعد الشيلي،ضمن قائمة الدول الأقل فسادا.

عندما، تلقي لمحة سريعة على صوره،مرتديا سروال الجينز على طريقة رعاة البقر وحذاء من النوع الرخيص،دون أن يكون لك أدنى فكرة مسبقة عن القيمة المثلى للرجل، تعتقده بسرعة من متشردي الشوارع، أو عجوز بلا مأوى،وليس أحد  عظماء القادة السياسيين الذين دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه،وانضم إلى الفريق الاستثنائي،لمتصوفة الحكم،الذين روضوا السلطة ولم تروضهم.

تمسك موخيكا،عقيدة وفعلا،بمبدأ حصيف، لم يكف عن تكراره :((أهم أمر في القيادة المثالية،هو أن تبادر للقيام بالفعل،حتى يسهل على الآخرين تطبيقه)) ،فبلور على أرض الواقع نموذجا “يستفز”،كما أورد الوصف أحد الكتاب السودانيين.منذ أول يوم من حكمه،فضل السكن في منزله المتواضع وسط مزرعته الصغيرة،بينما وضع القصر الرئاسي “كاساسواريت”رهن إشارة،المصالح الاجتماعية كي تستفيد منه لإيواء الفقراء والمشردين،بجانب المراكز الأخرى،لاسيما إبان فصل الشتاء.بل، إنه فاجأ الجميع خلال إحدى المرات،لما اصطحب بنفسه إلى القصر،امرأة وأبناءها،كي يسكنوا إحدى أجنحته، في انتظار أن تجد لهم المصالح الاجتماعية،مأوى آخر.أيضا،استضاف موخيكا داخل بيته الصيفي، مائة يتيم سوري، التجأوا إلى الأوروغواي،هربا من جشع حاكم يعكس بالمطلق،مثالا مختلفا جذريا عن مثال موخيكا. 

بقي حاكم، لن يكون إلا موديلا عربيا،اسمه القذافي،مدعيا الدروشة الثورية،مخصصا طائرة لخيمته المتنقلة التي تكفيه وتحميه رمزيا،من عفن الاستغلال الامبريالي !!حين الإطاحة به،اكتشفنا أن زاهد الخيمة، بلع ثروة لاتقل عن 130مليار دولار،وطبعا بلدا متجردا اليوم من كل شيء،مصنفا ضمن أكثر المناطق سوداوية.بينما،تشير مختلف التقارير،أن موخيكا، حاكم يتبرع ب90% من راتب شهري،لايتجاوز12ألف دولار،إلى الجمعيات الخيرية،مؤكدا بأن المبلغ المتبقي يكفيه كي يحيا حياة كريمة،بل سعيد بموقفه ذاك،مادام أغلب أفراد شعبه يعيشون بدخل يقل كثيرا.موخيكا،الذي قدرت ثروته ب1800دولار(وليس ملياردولار) ،ولايملك قط حسابا بنكيا،ويرفض رفضا باتا الاقتراض،هو نفسه القائد الناسك الذي عمل على توزيع الثروة داخل بلده،فانخفض معدل الفقر من 37% إلى 11% .

يشرح الرئيس موخيكا،طبيعة أسلوبه في الحكم والحياة،بقوله :((لأني أريد راحة البال والاستمتاع بوقتي في المزرعة مع زوجتي،الآن وبعد انتهاء ولايتي)) ،ويستطرد:((يسمونني أفقر رئيس،لكنني لاأشعر بأنني فقير.الفقراء،هم الذين يعملون فقط للاحتفاظ بنوعية حياة مكلفة،ودائما يريدون أكثر فأكثر…،الأمر يتعلق بالحرية،إذا لم يكن لديك الكثير من الممتلكات،فإنك لن تحتاج أن تعمل كل حياتك مثل عبد لتحافظ عليها، وبذلك يكون لديك وقت أطول لنفسك)).

يتكون طاقم حراسته الشخصية من شرطيين،لا يحب ارتداء البدل الرسمية،يطلق عليه شعبه ألقاب “بيبي” و”الصغير” و”الجد من دون أحفاد”،لأنه يبدي باستمرار احتفاظه على مراهقة شبابية ،يتصرف ببساطة وعفوية،صريح في كلامه،قليل الظهور إعلاميا، يميل أكثر إلى المبادرة العملية.

بجانب،ذيوع صيته باعتباره أفقر رئيس، يحكم بلده مثل رجل عادي تماما،فقد بوأته صحيفة التايمز مركز الصدارة،ضمن قائمة ساسة العالم الذين أبانوا عن صبر وتجلد خلال فترات نضالهم.بحيث كشف موخيكا،عن طاقة نفسية وجسدية،فوق-بشرية،طيلة عشر سنوات قضاها في السجن الانفرادي،وأحيانا كان يلقى به وسط بئر عميق،زاده الوحيد قطع من الخبز كي يستمر حيا،بحيث فاق تحمله كما تخبر الروايات،صبر باقي زملائه المعتقلين…  .

هي، إذن نكتة عابرة عن فولكسفاكن مهترئة، ورغبة الثري العربي كي يتباهى أثناء عشاءاته،بضمها إلى لعبه المتحفية النادرة.غير أنها،أبعد بكثير من  نزوع طفولي كهذا، مادامت تخفي حكاية غير عابرة لزعيم سياسي كبير،لايولد دائما.said

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.