الأصوليات الأمريكية والغربية

0 421

أساس الديانات التوحيدية الثلاثة :الإسلام واليهودية والمسيحية،يحيل على كنهها الروحي الخالص،الذي يتوخى البحث عن الخلاص والسكينة والسلام الباطني،عبر العلاقة غير المتناهية المنظورات،التي تربط المصير الفردي بالمشترك الإنساني.لذلك،أرست مفاهيم كالوئام والتعايش والتسامح والرحمة والسلم والاختلاف والتعدد…،الجسور الرابطة بين المسلم واليهودي والنصراني،ماداموا يضعون جميعا مقولة الإنسان، في معطاه الهوياتي المقدس،المتجاوز للزمان والمكان، وتلك المقتضيات الظرفية المشروطة.

هكذا فمبتغى الدين المجرد أكان إسلاما و يهودية أو مسيحية،يتوخى إدراك الوضعية الوجودية،التي يقترب معها الفرد من جوهره المتسامي،ويغدو جديرا بكونه خلق كي يكون إنسانا، ولا شيء غير ذلك.

لكن،عندما ينزاح الدين عن هذا المنحى، فتتقاذفه لعبة التفسيرات الإيديولوجية الميكيافلية،ذات الارتباطات المصلحية الضيقة،حينذاك تلتبس الأمور،وتختلط الأوراق،ويصبح اللامبرر مبررا، تحت سند أن الدين ومن خلفه الله قد أراد ما أراد،وينبغي لمشيئته السريان.بالتالي،كل من أراد إضفاء طابع القداسة على غاياته،سرعان ما يلتفت إلى حيلة جبرية الدين: الوصولي والغوغائي والمهرطق والإرهابي والمتسلط،إلخ.  

مانعاينه حاليا في توظيفاته السياسوية،لاعلاقة له بالإسلام واليهودية والمسيحية،كنصوص مكثفة جدا من الناحية النظرية والمنهجية،بل مجرد إسقاطات مقنعة، لأحقاد دفينة سياسية وتاريخية وإتنية وقومية وحضارية،تتوخى لذاتها تصديقا.في هذا السياق،حينما يجف الينبوع الأولاني للدين،باعتباره الإنسان في تعدديته،سيحل محله العمى العقائدي الكلياني، أو التطرف،ومايطويه من أفق تعديمي. 

التطرف غير مقتصر على جماعة دون غيرها،بل هو وباء يطوي الأزمنة وتتآكل معه كل الأمكنة،هو عينه الصهيونية والقاعدة وداعش واليمين الأوروبي المتطرف والمسيحيين الأمريكيين…،هؤلاء من يحرقون العالم ويسرعون بفنائه.أيضا،التطرف لم يصطبغ دائما بالطابع التيولوجي،بل انتعش ضمن تطبيقات اعتقدت ذاتها قمة الدنيوية.ألم تشكل “شيوعية”ستالين أوالخمير الحمر مثلا في  كمبوديا،تطرفا قاتلا للنظرية الماركسية؟ثم بماذا ننعت تحريف العسكر في سوريا والعراق،للنظرية القومية كما أطرها أكاديميا مفكروها الرواد، وفي طليعتهم ميشيل عفلق ونديم البيطار… .

في بلد كالولايات المتحدة الأمريكية،التي تلقب برائدة  العالم الحر،سبر الخبراء أغوار الفيزيولوجيا الدينية المختبئة،بين تلابيب سطح  لايكشف سوى عن نزوع ليبرالي : انتخاب جيمي كارتر(1976) ، وريغان(1980) ،وجورج بوش(1988) ،يعود أساسا إلى توجههم المحافظ،ثم النموذج الأوضح للهوس الديني كما جسده جورج دبليو بوش(2001)،مما يعكس بوضوح استثمار ورقة التدين، للفوز بالانتخابات الأمريكية.بهذا الخصوص نتذكر جميعا، القس جيسي جاكسون،كأول زعيم للسود،رشح نفسه للتنافس على قيادة البيت الأبيض.

تشير إحصائية،إلى أن الجماعات الأصولية المتطرفة الأمريكية،تقارب رقم الخمسة آلاف،وعدد أتباعها يتراوح مابين عشرة وعشرين مليونا. الحظوظ متساوية لدى الجميع،نظرا لتمتعهم بكامل حقوق المواطنة،كي يصبح أي واحد منهم،ذات يوم رئيسا لأمريكا،وطبعا سيؤول مقتضيات الجيو-استراجية، وفق محددات الصراع الأبدي بين”الخير”و”الشر”،كما سبق وأن فعل بوش الابن.كل ذلك،بين ثنايا،واقع يعرف انتشارا واسعا للكنائس،مع تغلغل قناعات دينية ذات أصول مسيحية متطرفة.

قبل واقعة 11شتنبر2001،ربما لايستعيد أغلبنا حيثيات قيامة من نفس الجنس،وقعت يوم19أبريل1995،اشتهرت بجريمة ”أوكلاهوما سيتي”،عندما قام أحد جنود المارينز الأمريكيين يدعى “تيموتي ماكفيج”،المنتمي إلى صفوف اليمين المتطرف،بتفجير شاحنة ملغومة أمام أحد المباني الفيدرالية،مما أودى بحياة 168شخصا وإصابة680 آخر… . 

أما اليابان،التي تجسد بامتياز الذكاء التقني للعالم المتطور،فقد أفرز نسقها جماعة “أوم شنريكيو”الدينية الموغلة في التطرف،التي أسسها سنوات الثمانينات مدرب اليوغا”شوكواساهارا”، بناء على مرجعية روحية تمزج خليطا من المعتقدات الهندوسية والبوذية،في إطار اليقين بالمعركة الفاصلة،بين قوى الخير والشر،الهوس بيوم القيامة والحساب العظيم.الجماعة التي تتوخى السيطرة على اليابان ثم العالم،مع إضمارها لعداء خاص، تجاه الولايات المتحدة الأمريكية،استقطبت قاعدة واسعة من الأنصار،تقدر بالآلاف،وضمنهم شخصيات يابانية تتمتع بالثراء والنفوذ.

في الغالب،عندما نتوخى القيام بجرد عام لتاريخ اليابان الحديث،سرعان مايتجه التفكير إلى سنوات الأربعينات مع فاجعة ناكازاكي وهيروشيما،غير أن العنف العقائدي لجماعة ”أوم شنريكيو”،سيضيف ذكرى جنائزية أخرى لاتقل عن السابقة،عندما شنت يوم 20 مارس1995،هجمات فتاكة بغاز السارين على شبكة مترو الأنفاق في طوكيو،مما أدى إلى اغتيال 62شخصا،وإصابة 5000آخرين.لحظتها،تباهت الجماعة بجرمها، كي تخبر الجميع،أنها تضم بين صفوفها داخل اليابان مايناهز تسعة آلاف عضو،ومايزيد عن أربعين ألف في باقي أنحاء العالم.

قوة أخرى من قوى العالم المعاصر،اسمها الهند،اشتهرت بنموذجها الديمقراطي العريق،وكذا مرتكزات الدولة اللائكية، التي وضع أسسها حزب المؤتمر الهندي.أقول،أن مجتمعا متحضرا كهذا للتعايش،بدأت تنخره التوجهات العرقية المتطرفة،المنغلقة دينيا،نتيجة تزايد شعبية حزب “الشعب الهندي” بزعامة “ناراندرا مودي”،لدى الأوساط الهندوسية المتعصبة الطامحة إلى مشروع إعلان الهند،دولة للهندوس.

عندما ننتقل إلى أوروبا،وعلى امتداد مختلف بلدانها تقريبا،من فرنسا حتى النرويج مرورا بألمانيا وهولندا واليونان وايطاليا والسويد والنمسا وبلجيكا وهنغاريا ثم روسيا،فبالتأكيد وللأسف الشديد،جل المعطيات تستشرف مستقبلا صعبا جدا،يناهض القيم الإنسانية الخالدة، التي ناضل في سبيل تحقيقها،بالدم والحديد، أجداد الشباب الأوروبي الحالي.وبأن أصحاب العقول الصغيرة والمعتوهين،هم من سيدير توجهات تلك القارة ،خلال القريب العاجل،تخمين تجلت ملامحه أثناء الإعلان عن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي،السنة الماضية،بالتكتل نحو “أممية قارية”،كما تتصورها أحزاب اليمين المتطرف.

إذن،عوض تاريخ قادة كبار من عيار فرانسوا ميتران أو هيلموت كول…،سيترقب العالم مصيرا مجهولا،يرتبه أناس في غاية الشوفينية،من صنف الهولندي”خيرت فيلدرز” زعيم حزب الحرية أو “ماري لوبن” بل وبصيغة من الصيغ مع”أنجيلا ميركيل” التي تصف الاتحاد الأوروبي بالنادي المسيحي،كأنها تستحضر ثانية أجواء الحروب الصليبية !ثم من يدري؟ربما زعيم شاب من الجيل الجديد،مستلهم لصنيع النرويجي “بهرينغ بريفيك” المسيحي المتطرف،والذي شرع يوزع الرصاص بدم بارد داخل مخيم صيفي،فبلغت حصيلة القتلى تسعين شخصا.  

في ألمانيا وروسيا،أضحى تجول النازيين الجدد أو حليقي الرؤوس،بين الناس أمرا مألوفا،فباسم الوفاء لأدبيات هتلر،يقدمون على ممارسة عنف منظم في حق الأجانب والأقليات والسود.مشاعر الحقد والكراهية هذه،تأججت أكثر بالتزامن مع الوحدة الألمانية ،ومارافقها من صعوبات اقتصادية،انعكست سلبا على الحياة المجتمعية.

غير بعيد عن ألمانيا،نجد يمينا متطرفا في النمسا،ينظم حملات دعائية،بهدف الحيلولة دون بناء المساجد،بل انساق وراء تشدده،حد إطلاق لعبة إليكترونية، تحرض على تدمير المآذن، وقتل أئمة المساجد… .

بدورها،وعلى وقع الحرب القذرة بين الأصوليات،فالأصولية الإسلامية المتطرفة،تنظر إلى غير الإسلامي،برؤية دينية في غاية الإقصاء،حسب مبدأ النموذج والنسخة،فتنحدر بالأوروبي والأمريكي والياباني،من آخر بكل مايطويه المفهوم من دلالات،إلى مجرد “كافر” و”نصراني قذر”،تماما بذات الحدة الاستفزازية لعبارة مجانين أوروبا : ((أيها العربي القذر!عد، إلى بلدك !)). لاهذا ولاذاك،فقط هي قذارة تخمر الأصوليات،فيظن كل طرف، أنه الأفضل.

 الوضع الطبيعي والمطلق،يوجب على المسلمين الذين يعيشون في أوروبا،الالتزام المبدئي الشخصي قبل القانوني،باحترام ثوابت ومرجعيات الفرنسي والألماني والنرويجي…،المختزل في كلمتي :المجال العلماني. وبالفعل،من لايعجبه ذلك،فليحزم حقائبه ويعود إلى بلده كي يمارس تعبده كما يريد.

في المقابل،يتحتم على ساسة  أوروبا،ورموز مؤسساتها الحزبية والاقتصادية والثقافية وأجهزتها الاستخباراتية والأمنية،التخلص من النظرية الاستعمارية القديمة،نحو شعوب الجنوب،والقطع مع الرؤية التحقيرية الامبريالية،التي تنظر إلى المنطقة العربية والإفريقية،باعتبارها مجرد ضيعات فلاحية للمعمرين ومناجم للثروات ومنتجعات للشمس،كي تسعى بشجاعة ودون نفاق، إلى الدفع بإعادة بناء تلك الجغرافيات سياسيا واقتصاديا وفكريا،وتخرجها من العوز،الذي سيشكل على الدوام مرتعا خصبا لتصدير الموت. 

نمط الحياة الذي يريده الفرنسي لبلده ونفسه وأولاده،هو ذاته الذي يتطلع  إليه الفلسطيني والعراقي والسوري والمالي والصومالي والليبي… إنه،الإنسان سواء هنا أوهناك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.