في الحاجة إلى إعلام إنساني..

0 341

من بين المبادئ التي يرتكز عليها منهاج مادة الفلسفة الحالي، العمل على تنمية الوعي النقدي والتفكير الحر والمستقل لدى المتعلم، ودفعه إلى التحرر من مختلف أشكال الفكر السلبي. إضافة إلى تكوين وتربية مشروع مواطن كوني متحرر، مستقل ومسئول.

تأملت مليا هذه الأسس والمبادئ، وأنا أرى ما يجري في الإعلام المغربي اليوم، ما دفعني إلى طرح الأسئلة التالية:

_ ألا يمكن للإعلام، كمؤسسة، أن يرتكز بدوره على المبادئ نفسها، كما في منهاج الفلسفة التعليمي ؟ وهل يضع من ضمن اهتماماته هذا المواطن الكوني المتحرر والمسئول؟

_ ألا يحتاج إعلامنا العمومي إلى وقفة حقيقية من أجل الإصلاح ؟

_ أليس من حقنا كشعب (ومواطنين) أن نختار المادة الإعلامية التي نريد، ونصنع ما نحتاج إليه، وما يتناسب مع طموحاتنا ومتطلباتنا؟

_ ألا يمكن للإعلام الافتراضي، الذي يفرضه عالم الإنترنيت اليوم، أن يكون ملجأ حقيقيا لأفراد المجتمع، في ظل تردي أوضاع الإعلام السمعي البصري؟

إن كل هذه الأسئلة، وغيرها، هي من جملة القضايا التي ينبغي التفكير فيها بشكل دقيق وممحص. ولا يسعني في هذا المقال المتواضع إلا أن أسهم بوجهة نظري الخاصة، وهي دعوة أيضا لكل الغيورين على الإنسان إلى التفكير فيها ووضعها عل محك النقد الجاد.

لا يختلف اثنان حول التعدد الذي أصبحت تعرفه وسائل الإعلام في وقتنا الراهن، مما زاد من تعقيد علاقتها بأفراد المجتمع. ولما كان الأمر كذلك، فإنني سأركز على واحدة من أكثر هذه الوسائل تأثيرا ونفوذا، أقصد الوسائل السمعية والبصرية، خصوصا هذه الأخيرة نظرا لاعتمادها على الصورة بشكل أكبر، ما يتناسب مع المقولة الصينية الشهيرة:” الصورة أبلغ من مليون كلمة”..

وبما أن هناك فرقا بين ما هو كائن، وما ينبغي أن يكون، فإن وسائل الإعلام على اختلافها تساهم في التنشئة الاجتماعية والتعليم والتثقيف. كما تساعد على تشكيل هويتنا ومواقفنا اتجاه الآخر المختلف والمماثل في نفس الآن.

ما هو كائن، في نظري، أننا ندفع من جيوبنا لنشاهد ما لا يروقنا. خصوصا عبر التلفزيون الذي أصبح يقدم خدمة تعتمد أكثر على نفوذ وتأثير الصورة، ما يجعلها تحقق أهدافا محددة سلفا، غالبا ما يكون الربح المادي هاجسها الأكبر، في تعارض تام مع المصلحة العامة للمواطنين بتنوع ثقافاتهم وأجناسهم ولغاتهم.. مما يزيد من الهوة الفاصلة بين الإعلام التلفزيوني وطموحات واهتمامات الأفراد الذين أصبحوا مدركين تمام الإدراك أن مقولة “من يدفع للزمار أكثر يسمع اللحن الذي يريد” قد ولت إلى غير رجعة، وأن سياسة خلق نموذج وحيد لإنسان ذي بعد واحد سياسة تتعارض تماما مع رغبات وطموحات أصبحت أكثر انفتاحا في عالم يزداد اتساعا يوما عن آخر.

ما ينبغي أن يكون، في نظري، هو التفكير بشكل جدي، في خطط واستراتيجيات واعية لوضع أهداف و كفايات هادفة وبناءة، تضع في صلب اهتماماتها الإنسان – المواطن في قلب العملية الإعلامية التي من المفروض أن يشرف على تسييرها وإدارتها رجال ومهنيون ذوو كفاءات عالية، ومتخصصون في الشأن الإعلامي. وذلك بالإشراك غير المشروط لكل الفعاليات المجتمعية بكافة أطيافها، دون إغفال كل الفئات العمرية والمعيشية أخذا بعين الاعتبار التنوع والتعدد الثقافي واللغوي والفكري والجغرافي لهذه الفئات. ذلك أن إغفال كل هذه المكونات وعدم إشراكها في المشروع الوطني لإصلاح الإعلام، يعيد طرح سؤال الديمقراطية والحق في الاستمتاع بإعلام جاد يربي على الخلق والإبداع والحرية. وما تعدد الظواهر السلبية في مجتمعنا (عنف، غش، رشوة… ) إلا دليل على أن هناك خللا ما يشوب العملية الإعلامية التي انحرفت عن دورها الطبيعي المتمثل في التربية والتثقيف والتوعية، وانصرفت خلافا لذلك إلى ممارسة العنف الرمزي على الأفراد (بتعبير بيير بورديو) لاغتصاب العقول وحشو الأدمغة.

ووعيا منا بخطورة ما قد نصل إليه من انحطاط فكري وتردي للوعي الجمعي، فإننا نطالب بالإسراع في جعل الإنسان- المواطن يختار مادته الإعلامية التي تناسبه، وإلا فالنتيجة ستكون وخيمة على مجتمعنا الذي ما يزال يخبط خبط عشواء وسط الضياع والاغتراب..

إن أصعب مشروع يمكن أن يركب غماره أي مجتمع، ذاك المتعلق بتربية وتكوين مواطن قادر على التساؤل والنقد البناء، مواطن متشبع بالقيم الإنسانية النبيلة وبالقدرة على الاختيار. وهذا، لعمري، مشروع ليس مقصورا على المدرسة لوحدها، إنما هو عمل مشترك ينبغي على الكل أن يسهم فيه، من جمعيات المجتمع المدني ومدرسة وأسرة وإعلام.. وأخص بالذكر هذا العنصر الأخير الذي من المفروض أن يكون الحصن الحصين والموجه الرصين لأفراد المجتمع ومواطنيه. وفي انتظار أن يتحقق ما ينبغي أن يكون، نتمنى أن يتغير ما هو كائن، وأن يعي المشرفون على قطاع الإعلام أنه لا يمكن مساومة حرية وكرامة الإنسان، وأن هذا الأخير لا يمكن بأي حال من الأحوال تحويله إلى مجرد وسيلة أو آلة للربح، بل إنه غاية الغايات وقيمة القيم ..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.