المُسامح كريمٌ

1 497

   كان الحاج الحسين يقوم بجولته التفقديةِ اليوميةِ في متجره الكبير ، عندما سمع جلبةً وضجيجا عند نقطة الاستخلاص بين عاملٍ بالمتجر وزبونٍ ، كان الحوار بينهما قد أخذ منحى تصاعديا وكاد يتطور إلى عراكٍ :

العامل : لقد قلت لك أن المتجر يتعامل مع التجار الذين يتسوقون مواد بالجملة …

الزبون : أنا أيضا أتسوق بالجملة ، ألا ترى ؟ كيس دقيق 25 كيلوجراما ، علبة ولاعات ، علبة مواد التنظيف … أليست بضاعة بالجملة ؟

العامل : لا يا سيدي هذا تقسيط ولا يمكنني أن أبيعك هذه السلعة إلا بثمن التقسيط …

الزبون : أتعلم ، لو أنني أرغب في هذه البضاعة بنفس الثمن لاقتنيتها من بقال الحي دون أن أشد الرحال اليكم ، إن تعاملكم هذا …

وقبل أن يسترسل في كلامه قاطعه الحاج الحسين الذي وقف غير بعيد يتابع هذا الحوار الساخن موجها كلامه الى العامل :

– ادفع له كل ما يريد بثمن الجملة .

انفرجت أسارير الزبون وهو ينظر الى الحاج الحسين بابتسامة تعبر عن الشكر والامتنان ، لكنها لم تخف ألما وحزنا عميقين ، فقد أخذ نفَسا طويلا وكأن على صدره صخرةٌ ثقيلة وقد تزحزحت قليلا . وقبل أن يؤدي ثمن السلعة رأى أن يستغل كرم ولباقة الحاج الحسين فرجع ينتقي كلَّ ما يحتاجه من مواد .

تسمٌّـر الحاج الحسين في مكانه وهو يراقب هذا الزبون ويدقق النظر الى محياه ، فابتسامته أحيت في ذاكرته صورة شخص يعرفه جيدا . وضع سبابته على فمه وهو يهمهم :” هذا الوجه ليس غريبا عني ، … من يكون ؟ أين التقينا ؟ …” أسئلة تدافعت في رأسه ، أغلق عينيه للحظة وقد سمح لخياله أن يسبح عبر التاريخ منقبا في ثناياه عن أثر يقود الى الكشف عن هويته …فجأة صاح دون أن يهتم بمن حوله : هو … عبد الوهاب …سبحان الله …” ثم اسبطر يقفو على أثره فوجده وقد انتهى من جمع ما يحتاجه من مواد ، يستعد للمغادرة ، فبادره :

– مرحبا ألسي عبد الوهاب ، أنت في محلك ، خذ كلَّ ما تحتاجه من مواد ..

– أشكرك جزيلا ، إن التاجر الناجح هو مَن يُحسن التعامل مع الزبناء ، فيُقـدِّرون سلعته بقدر تقديره لهم …

– طبعا ، أنت إذن تاجر ، أليس كذلك ؟

– لا انا أستاذ مؤطر ، ولكن كيف عرفت بأن اسمي عبد الوهاب ؟

– كيف لا أعرفك وأنت قيمة وقامة ، ألم تقلْ أنك أستاذ مؤطر ؟

– هذا لطفٌ منك ألسِّي الحاج شكرا .

– فضلُكم علينا كبير يا أستاذ ، ولا يمكن أن ينكره إلا جاحد أو ناكر جميل …

بقي الحاج الحسين يتأمل الأستاذ عبد الوهاب محاولا الجمع بين صورته التي رآه عليها لأول مرة قبل خمسَ عشْرة سنة خلت ، والصورة التي هو عليها الآن ؛ تحول سواد شعره الى بياض وبدأت تباشير الشيخوخة تلوح على وجهه رسمتها أخاديد صغيرة من التجاعيد على الجبين والوجنتين ومحجر العينين ، ترهَّل لحم وجهه ، وتساقطت بعض أسنانه الأمامية ، ويبدو أنه لم يعد يعير اهتماما لهندامه حتى … منظرٌ قذف في قلب الحاج الحسين الشفقة والعطف على رجل طالما كان ألد الأعداء …

عندما دخل عليه أول مرة القسم َ ، كان شابا نشيطا ، أنيقا يفرض عليك احترامه ، شخصيته القوية يرهب بها كل المعلمين الذين يشتغلون تحت إشرافه ، كانت نظراته صارمة وقراراته لا تناقش … بعد حصة التفتيش التي دامت ساعتين قال له وهو يصافحه : ” أتمنى لك التوفيق في الزيارة الثانية ” (…)

 

في الزيارة الثالثة والأخيرة ، حاول المُعلم “الحسين ب ” العمل بنصائح مفتشه السابقة ، فهو يدرك جيدا أنها فرصته الأخيرة للترسيم في المنصب ، وهي فرصة لا تُعوض ، ، فبذل مجهودا ليكون في مستوى الحدث وقد كانت مشاركة التلاميذ جيدة ً، ولكن عند الوداع ، جاءه الفصل من الوظيفة بلغة مُهذبة : ” أتمنى لك النجاحَ في وظيفة أخرى ” قالها المفتش وهو يضغط على مِكبس سيارته مُخلفا وراءه الدخانَ والحسين .

جف ريق “الحسين ب” ، واهتزت الأرض تحت أقدامه واسودت الدنيا في عينيه ، ودفعه الاحباط للتفكير في حلول شيطانية ، غير أنه لم يفقد الأمل ، فقد يكون السيد المفتش يخبئ له مفاجأة ، وما دام لم يتوصل بقرار مختوم من الوزارة فلِم الجزع ؟

بعد شهـر جاءته المفاجأة التي غيـرت مجرى حياته ، في ظرف مختوم ، يحمل خطابا مباشرا لا مجال فيه للتأويل : ” لقد تم الاستغناء عن خدماتكم في قطاع التربية الوطنية ” … تمنى حينها لو أمسك بذلك المفتش وقطَّعه وألقى بلحمه للكلاب والسباع ، لقد دمـر مستقبله وحطم كل صروح الأمل التي بناها بعدما ظفر بوظيفته … ما أفظع أن تقطع مصدر عيش إنسان لاختلاف في الافكار أو التوجهات ! .

ها هو الآن أمامه في متجره الممتاز يثير الشفقة ويستدر الاحسان .

كان الحاج الحسين غارقا في ذكرياته الأليمة عندما اقترب منه المفتش عبد الوهاب حاملا علبا من السردين وهو يقول :

– رجال ونساء التعليم دائما مغبونون و مظلومون ولا يعرف قدرهم إلا القليل من الناس أمثالك ألسي الحاج .

رد عليه الحاج الحسين وهو يغير موضوع الحوار :

– ألم تُحل بعدُ على التقاعد ؟

– بعد سنتين إن شاء الله .

– لاشك أنك تسكن غير بعيد من هنا ؟

– نعم ما زلت في البيت الذي اكتريته منذ عشر سنوات ، لقد كان مناسبا لموظف محدود الأجر مثلي .

– والعمل أيضا في نفس المدينة ؟

أخذ المفتش نفسا عميقا وقال :

– لا ، عملي بنيابة بعيدة مترامية الأطراف ، تعدل خريطة المغرب ، وهذا ما يجعلني أتبضع ما يكفي أهلي من مؤونة لشهر أو شهرين .

اكتشف الحاج الحسين أن صاحبه ما زال في نفس النيابة التي كان تابعا لها عندما كان معلما ، فحاول أن يلقي إشارة علَّها تذكره بشيء :

– لـمَ لا تختار وظيفة أخرى ؟ قد تنجح !

غير أن المفتش لم ينتبه للرسالة و إنما شرع في الحديث عن الاكراهات ومشاكل التعليم والمعلمين وسطوة المسؤولين الكبار والبعد عن الأبناء والحرمان من تعويضات التنقل و…

– ” وبيداغوجيا الأهداف والترسيم والترقية والجذاذات …” أضاف الحاج الحسين وهو يبتسم .

نظر اليه المفتش وعلامات الدهشة باديةٌ على محياه وسأله :

– لا شك أنك أيضا رفيق في المهنة ؟

– صحيح لكنني كنت فاشلا ، فتم الاستغناء عن خدماتي .

– لا يمكن لتاجر ناجح مثلك أن يعرف الفشلُ إليه سبيلا !

– سأعتبر هذه الشهادة اعترافا بأخطاء اقترفها آخرون في حقي .

-ولكن كيف تم ذلك ؟

– لست أدري ، كل ما أعرفه أن السيد المفتش اتخذ قرارات في لحظة غضب على ظروف عمله أو…

– صحيح ، إن ظروف العمل تلعب دورا كبيرا في اتخاذ بعض القرارات ، والضحية للأسف الشديد إنسان بريء …

 

– ألم يسبق لكم يا أستاذ أن اتخذتم قرارا تعسفيا في مثل تلك الظروف ؟

تنهد المفتش تنهيدة عميقة ، واحمرت عيناه وأجاب :

– فعلت وليتني ما فعلت ، مرة أولى كان القرار صائبا وبشهادة لجنة التفتيش المضاد ، والثانية فيها الكثير من الشطط ، وقد أورثتني حزنا عميقا ما زلت أدفع ثمنه الى اليوم : أدوية وعقاقير أعصاب ، أعترف لك ألسي الحاج أنني أخطأت في حق شاب طموح ، كله حيوية ونشاط واتخذت قراراً بفصله في لحظة غضب من ظروف العمل ، كنت متهورا ، لم أقدر المسؤولية ، أنا اليوم أحتقر نفسي ، آه لو أتمكن من لقائه لركعت أمامه وقبلت قدميه ، هو أطهر وأشرف مني إذ لم يسْع لقتلي كما كنت اتصور …

كان المفتش قد خنقته العَبرات ، وبينما هو يعالج دموعه ويستجمع قواه ، دعا الحاج الحسين أحد العمال و همس في أذنه ثم عاد يسأل صاحبَه :  

– هل تتذكر اسم ذلك المعلم ؟

– كيف لا أتذكره … وأتذكر تلك القرية الجبلية الصغيرة التي كـان يعمل بها ، والصبية الصغار بهيئاتهم النحيلة … كـان اسمه ” الحسين ب ” متوسط الطول ، غليظ العضم ، غير ممتلئ لا تسمع منه الا كلمة ” نعم ” كان مؤدبا يحبه تلامذته كثيرا لكنني لم أكن عادلا في حقه .

في هذه الاثناء أقبل العامل الذي همس الحاج الحسين في أذنه وهو يقول :

– السيارة جاهزة ألحاج الحسين …

وما إن سمع المفتش هذا الاسم حتى رجع خطوة الى الوراء ، وقطب حاجبيه ونظر الى محاوره ثم صاح :

– أنت ؟ أنت هو “الحسين ب ” ، وانطلق كالسهم راكعا في اتجاهه ثم هجم على قدميه يقبلهما قبلات جنونية يطبعها هنا وهناك وهو يصيح :

– عفوَك ، عفوَك سيدي … أعترف أنك الاكرم والأصيل .

أمسكه الحاج الحسين من معطفه ، وبقوة رفعه وقد بلل الدمع خديه وخاطبه :

– لقد سامحتك منذ أن منَّ الله علي بما ترى وبما لم تر من نعم … انطلق بنا الى بيتك .

امتطيا السيارة التي كانت بباب المتجر وقد حُمِّلت بكل السلع التي يحتاجها الإنسان لتغذيته ولسان السيد المفتش ما انفك يلهج بكلمات الشكر والامتنان ويوبِّخ نفسه على ما فعل . أما الحاج الحسين فكان يجدُّ في تهدئة روعه وقد حزَّ في نفسه أن يرى مفتشا طالما نشر الرعب في صفوف المعلمين ، قد ذبل وتمرغ أنفه في تراب تأنيب الضمير .

كان يُحدثه عن مساره بعد الفصل ، وكيف التقى بتاجر كبير شغَّـله عنده مديرا للتسويق تم شريكا قبل أن يستقل ويؤسس شركة للبناء حققت أرباحا متتالية بفضل الطفرة التي عـرفها القطاع ..

بعد استراحة شاي انتقل الصديقان الى ورش البناء الذي يوجد على أطراف المدينة حيث اقترح الحاج الحسين على مضيفه أن يختار الشقة التي يحبها ، فاندهش المفتش ولم يصدق ما يسمع ، لقد تلقى هذا اليوم ضربات موجعة أشعرته بأنه لا يساوي شيئا ، وقبل أن تنتابه نوبة البكاء التي بدأت علاماتها تلوح من نبرة صوته ، نظر اليه الحاج الحسين وهو يقول :

– أنت صاحب الفضل في هذا بعد الله ، لقد عذبت نفسك كفاية ، اليومَ يغفر الله لك ، ألم تعلم أن المسامح كريم ؟ خذ مفاتيح شقتك عربونا على صفاء قلبي تجاهك .

– أنا لا اعرف كيف أشكرك !

– قلْ أتمنى لك التوْ…

قاطعه المفتش قائلا :

– أتمنى لك السعادة في حياتك ، ما أشرفك !

وضمه إليه وهما يبكيان ويضحكان .

تعليق 1
  1. alisg يقول

    LAZALAT ALORA AL ARABYA HADERA AKHBAR SOK

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.