ذكرياتي مع أحياء مراكش: حي الزاوية العباسية(الحلقة1)

0 471

تواجد منزلنا الصغير، وسط درب ضيق،تستغرقه ظلمة كهف، ليلا ونهارا،مجاور للضريح الشهير أبي العباس السبتي.ذات صباح خريفي،استيقظت كالعادة على نداء أمي،وقد تكرس دائما بثلاث صيحات متتابعة،يتآكل كل حرف منها مع الصيحة الموالية :”سعيد”.. “عيد..” ثم ”عي” وتنهي غاضبة”عِيِّقْتي”،إذا تشبثت بكسلي،متلكأ عن النهوض قصد الذهاب إلى المدرسة. بعدها،لايصلني منها ولاخشخشة،لأنها تكون قد عاودت الغض في نومها العميق.لم يكن صباحا كباقي الصباحات،وأنا أهم بالمغادرة،لاحظت أن عيناي أبي،تلاحقني بغرابة بشكل لم أعهده قبلا،كأنه أراد اصطحابي أو مخاطبتي بأشياء كثيرة،لكن جسده لايسعفه.

في الفصل، استظهرت المواد التي طلبها مني الأستاذ، استحسن صنيعي كما اعتاد معي،لكن تلك المرة لم أتلذذ طعم ذات الرضى المألوف.وقت الظهيرة،رجعت،وماكدت أرمي بأولى خطواتي، إلى عتبة دربنا القابع دوما في أحضان سكينته،حتى لمحت حركة غريبة وهرج ومرج أمام منزلنا،اشرأبت نحوي أعناق الجالسين والواقفين،بملامح باكية،انبثق شخص من وسط الجماعة،عرفت من أول وهلة أنه جدي من جهة أبي،ضمني إلى صدره :”لقد مات أبوك ياصغيري،هي أقدار الله تعالى، وعليك أن تكون رجلا،تشجع !!”.غادر إلى عالم مفارق كليا،في عمر الآلهة،اختفى منذ النظرة إياها،ولم يعد،هو سفر بدون محطة استراحة.    

فهمت حينها،لماذا شرع يهذي في الليلة السابقة بالرحيل،كانت أمي تناوله ملاعق من الأرز،لكنه يتأفف: ”أنا مسافرغدا بعيدا…”،وتجيبه أمي :”يارجل !أين ستسافر،والله حكاية،لقد أنهينا كل شيء، ولم يتبق لنا غير السفر؟”… .

جسدت ظلمة دربنا،مأوى دافئا للعاشقين،لاسيما خلال المساء.كم من مرة،فتحت باب منزلنا قاصدا الخارج،فأباغت طيفين ملتصقين بل متوحدين تماما،غير أنهما جراء فضح إضاءة المنزل،سيرمي أحدهما الآخر إلى الجهة المعاكسة،مستعيدان وضعية التناظر.أيضا،ظلمة مثلت ملجأ مريحا،للهاربين إلى متعة التحليق الحلُمي،ليست بالضررة حشيشا وشرابا،بل مجرد تجريب على مص أولى أعقاب السجائر،موقف لم يكن وقتها سهلا،فاقتضى الاختفاء وتبني أقصى درجات الحيطة والحذر،مادام تأكيد التهمة من طرف الأسرة أو الأقارب،سيجر عليك مختلف الويلات.

غير عالم هؤلاء،ومع انبثاق أولى خيوط الفجر،تملأ الحي أصوات المتسولين، جلهم مكفوفين،بحيث يسكنون تلك الغرف الشبيهة بثقب في الحائط، المحيطة بالضريح.من بينهم جميعا،لم تفارقني حتى اللحظة،وقد ابتعد الزمان كثيرا،صورة شاب مجنون مقيد اليدين والرجلين باستمرار،لايكف عن قضم الخبز،ملتصقا بجانب أمه الطاعنة في السن،دائم الترنح والجذبة.جسم هائل،أصلع،وملامح تكابد كي تحتفظ بوسامة أصيلة،رغم تغير سحنة وجهه،التي اختلطت ألوانها نتيجة تراكم وتكلس الأوساخ.عندما تدرك جذبته مبلغا،منزعجا لأنه لم يتناول خبزا،ينهض مشهرا أمام المارين،جهازه التناسلي وقد تصلب عوده على إيقاع هذيان،بالكاد نستوعب منه مايلي :” ألْبْنات، أَوِيلي هم الْبْنات،.. بْنْ .. بْنْ.. بْنْ”،نتحلق حوله ونحن نتراقص ضحكا،تنتبه أمه لفظاعة المشهد،تصب علينا لعناتها وترمينا بالحجارة،نتفرق مهرولين صوب كل الجهات،تلتفت إليه، تقذفه بصفعة مدوية :”صلاي”.ترمي ببصرها صوب أي قطعة خبز،ثم تغلق فمه بها،فتعتريه سكينة مطلقة،بحيث سرعان مايأخذه نوم ميت، ويبدأ شخيره في الهدير.

ذات الوقائع تتكرر طيلة الأسبوع،لايكسر رتابتها غير حيثيات معركة ضارية بين شخصين،بمناسبة أمسية حمراء.معارك تلك الوقت تختلف أجواؤها عن مايجري حاليا،لأن الفيصل فيها هو القوة البدنية دون الاعتماد على لوازم،فنادرا جدا ماكان يستعين أحدهم بسكين أو آلة حادة،كما أن مدتها قد تتواصل لساعات طويلة بل أيام،أذكر مثلا أن أحد أخوالي خاض معركة لثلاثة أيام،بحيث يستريح ثم يعود ثانية لاستفزاز خصمه،لأسباب على منوال دوافع داحس والغبراء،وتزداد الأمور تعقيدا، في حالة انحدار المتصارعين، من حيين مختلفين،وقتها يختلط الذاتي بالموضوعي وتحضر دواعي المروءة والعزة،ثم تتعقد أكثر فأكثر،إذا تصادف وغدت المعركة قضية شخصية ارتبطت بقيادي الحي.

قامت البنية الوظيفية للحي،على الحضور المختلف والمتميز للعناصر التالية :الشرس،رمز القوة والجبروت،يهابه الجميع ويحظى بموقع الطليعة، متفردا بكافة الاستثناءات.في الأغلب الأعم،يكون قد قضى ردحا من الزمان في الخدمة السكرية متطوعا بناء على قانون جبرية التجنيد،وخبر السجون فيما بعد نتيجة اقترافه لجريمة هنا أو هناك.أما شكله الخارجي،فليس بالضرورة أن يكون مفتول العضلات،وصاحب قوام رياضي،مثلما سارت الموضة بعد ذلك،مع انتشار الأندية الرياضية وانفتاح الشباب على الثقافات الأجنبية.يكفي الرجل القوي في الحي،تمتعه بوزن ثقيل، مترهل، يتجاوز المائة كيلو،له وشم على الكتف أو الساعد يخبر الناس بكونه مر من السجن،يكشف طلسمه عن اسم معشوقته التي هام في حبها العفيف،وأتذكر بأنه لم يكن ينزاح إجمالا، عن أسماء :ربيعة،عائشة، فاطمة، خديجة، وسعيدة.

الشرس الذي شغل آفاق حينا،هو “مصطفى طبّوخْ”،أستعيد حد الآن،هيأته التي تحيل مباشرة على محترفي الملاكمة لسنوات السبعينات والثمانينات،ببشرتهم السوداء وملامحهم الإفريقية ثم سن أو أسنان،اصطبغت بلون فضي فاقع ،فتضفي على قهقهاتهم المتوعدة،دلالة مرعبة.استمر “طبوخ”متسيدا لسنوات،لايجرؤ أحد من الحي على أن يدقق فيه النظر،بل والمجازفة بالمرور من المكان المتواجد فيه،إلى أن جاءت نهايته بكيفية لم تخطر على بال،حينما انهزم هزيمة نكراء يندى لها الجبين،تماما بنفس سيناريوهات أفلام الفتوة المصرية.فقد تعمد شتم شاب،هكذا لله في الله،مغمور يدعى “فُورة”، يصنف ضمن خانة الشباب الأليف للحي،فما كان من الأخير غير الإسراع نحوه وإسقاط “طبوخ” أرضا،بحركة رياضية تشبه تقنيات الجيدو.وقع الصدمة،كان مدويا،تقاطر ساكنة الحي بسرعة البرق،الكل منذهل،الحدث جلل،من كان يخمن أن عرّابنا يتعرض لكبوة كتلك !ظل “طبوخ”،ممددا يتلوى من الألم،مرددا”أوِيلي على مّو،أويلي على جْدْ مّو !!”.ظل الوعيد مجرد تهديد شفوي،لأنه لن تقوم له قائمة بعد الواقعة،هكذا انطفأ بريق “طبوخ”، ثم تلاشى وأضحى مجرد عبرة.

كان بوسع البطل الجديد “فورة”،أخذ مكانه لو أراد،استحقاقا لشجاعته التي تباهى بها السكان ، بيد أنه لم يكن من العينة،ثم بعد فترة جد قصيرة،سيغادر وعائلته الحي صوب وجهة مجهولة.  ولأنه يستحيل أن تكون للحي رمزية،بغير حارس للشر،فقد حاول شاب آخر اسمه ”العْقِيرة”،تماثلت ملامحه وياللصدفة،مع ذات سيمياء “طبوخ”،التقدم شيئا فشيئا وجهة مركز الريادة،بحيث كان معاركا صنديدا لايشق له غبار،إلا أن شغفه الكروي وشغله لموقع قلب هجوم ضمن فريق حي الزاوية العباسية،ربما أضعف نسبيا سُمك الهيبة، التي يجدر أن تحيط بصاحب مقام كذاك،بالتالي افتقد لنفس اعتبارية الأول،ثم جراء التطور،وبداية تفكك المفهوم التقليدي للحي،لم يعد لمفهوم الوغد، تلك الدلالة القديمة… .

العنصر الفاعل الثاني،الذي ينسج كميا ونوعيا،تفاصيل يوميات الحي،هو مايعرف في أدبيات المخزن،ب :المقدم. إنه عين السلطة التي لاتنام،يرصد كل صغيرة.مصائر أهل الحي،موصولة بنزوات وأمزجة “المقدم”،فلا ضمانة لأي منهم على سلامته،من بطش الدولة، إذا أثار حفيظة “المقدم” لسبب من الأسباب،أقل وشاية منه ولو كاذبة،ستفتح عليك أبواب جهنم،وقتها لم تكن هواتف محمولة ولا فضائيات ولا إذاعات خاصة ولا أنترنيت.إذا كنت متابعا للشأن، ومهتما باقتناء الجريدة اليومية،فيلزمك إذا ولجت مدخل الحي،إخفاء الجريدة تحت الملابس،حتى لاينتبه لك صاحبنا،لأن قراءة الجريدة معناه السياسة، وبالتالي الخوض فيما لايعنيك،لاسيما إذا تعلق الشأن بجرائد اليسار.  

أما الشخصية الثالثة،التي تخلق الحدث في الحي،فهو الأمرد أو الغلام،والذي عاش غالبا مغامراته في خبايا فضاء المرحاض العمومي الموجود وسط الحي،أو حينما يرافق الجماعة للتنزه فتوكل إليه مهمات السخرة.المفارقة،أنه لم يكن يظهر عليه من الوهلة الأولى، الحس النسوي لشواذ الحاضر،ربما نتيجة الثورات التي حققها عالم التجميل.

إذن كما أشرت،لا شيء يعكر صفو حينا على امتداد الأسبوع،الكل يحيا على قلب واحد،والجميع محيط باهتمامات الجميع.لكن يوم الأربعاء،يجري انقلاب كلي،حينما يغدو الحي، قبلة يحج إليها المراكشيون من شتى أركان المدينة،بسبب انعقاد سوق شعبي ضخم،اشتهر ب “لاربعا”،تمتد جنباته من ضريح أبي العباس السبتي،إلى أقصى الجهة الشمالية من حي آخر يدعى ”باب تاغزوت”.كرنفال حاشد يزيل كليا بساط الفرجة من تحت أقدام ساحة جامع الفنا،فتجد ماتريد :الباعة،الأثاث المنزلي،الحلايقية، المشعوذون،السحرة،الدجالون،بائعو الأعشاب،الفقهاء،مروضو الثعابين،قارئوا القرآن،الفرق الفولكلورية… .أيضا،هو اليوم الذي تبعث فيه السلطات الرسمية،سيارة مملوءة من الخبز إلى المكفوفين،الذين يقطنون بجوار الضريح،كما تذبح بقرة أو ثور ثم ناقة خلال مناسبة عيد المولد النبوي،وتوزع قطع اللحم بجانب الخبز.

التجمع كذلك،فرصة لاتتكرر إلا بعد أسبوع،بالنسبة لشباب الحي،كي يحتفوا شبقا وسط الازدحام،فيتعمدوا على امتداد اليوم،جيئة وذهابا،الاحتكاك بالنساء القادمات للتسوق،منهم من يقضي وطره في سلاسة وسلام،بينما الآخر قد تتضايق من سلوكه سيدة ما، فتستدعي صوبه خلق الله زهيقا.أما نحن الصغار،فكنا نسرع إلى المرحاض العمومي، كي نتابع، من جهة سلوكات الجرذان،ونعاين أوزانها،وإذا كان الجو حارا نرتمي في الحوض المائي الذي يتوسط المرحاض،لكن ونحن ننتعش بطراوة الماء،سنتلصص من جهة أخرى بسخرية،على عري الكبار وبالأخص الكهول،وهم يفرغون أحشاءهم داخل بيوت في غاية النتانة والقذارة ونصف مغطاة،قبل قدومهم إلى الصهريج للتوضأ… .  

لظروف تجاوزتنا،اضطررت وأسرتي كي نغادر الزاوية العباسية حينا الأصلي،صوب آخر بعيد نسبيا ومختلف تماما عن أجواء المدينة القديمة،إنه حي سيدي يوسف بن علي، الذي صار دون سابق إنذار معروفا في جميع المغرب،بعد نعته من طرف الملك الحسن الثاني بحي الأوباش، وقد مرت وقتها، سنتان على استقرارنا به….

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.