حروب الدرائع وصراع المواقع

0 322

ليس من الأخلاق في شيء أن يتحين المرء فرص وقوع حدث ما ليكتب ويقلص ويمدد فيه حسب وجهة نظره، ما لم تتضافر الشروط المؤسسة لإنتاج موقف لا يأخذ بعين الاعتبار عنصر الإثارة في هذا الحدث بقدر ما يستند على تحليل موضوعي تبعا لسياق الحدث وحيثياته، وإنه لأمر مؤسف أننا نلمس هذا من خلال تتبع آراء بعض الكتاب حول مسائل عالمية معقدة من قبيل الإرهاب و المسألة النووية، بحيث يضطر الكاتب إلى تصريف عدة مواقف في ظرف وجيز حول المسألة الواحدة وأحيانا يكون مضمنا بجملة من المتناقضات لا تعبر حتى عن انسجامه مع ذاته واحترامه لمنطلقات ومعايير تحليله.

أما السياق الذي نتحدث عنه ونقول بضرورة استحضاره فلا يقتصر على السانكروني فحسب بل على التقاطع الكرنولوجي”دياكروني” العمودي لأحداث الأمس مع التناقض الأفقي لما يحدث اليوم. فمند أحداث 11 شتنبر الذي استهدف برجي التجارة العالمية في العاصمة الأمريكية نيونيورك ، والعالم في سعي مستمر إلى إيجاد براديغما جديدة لفهم الوثيرة المتسارعة للإحداث المتلاحقة التي تأتت فضاءه اليوم . فاغتنمت القوى الكبرى الفرصة واتجهت نحو توطين أتباعها في الخريطة تبعا للتقسيم الجديد في من سيحارب الإرهاب ومن ضد هذا الخيار مع أن التطور لا يقبل إلا احد الأمرين عكس ما كان سائد إبان اشتداد الأزمة بين المعسكرين الشرقي والغربي وبالتالي استطاعت دول معينة أن تقول بعدم انحيازها وفي الحقيقة أنها لم تكن في هدا الخط الوسط وأن الأمر لا يعدو أن يكون إلا قوس تقييم لطرفي الصراع لصعوبة التكهن بنتائجه.

والسياق الذي حلل فيه بعض الباحثين وكتاب الرأي أحدات متحف تونس وقبلها حدث جريدة فرنسا لم يخرج عن المسار الذي رسمته هذه القوى في أن تبين على ما يعضد خلاصتها بشان مسائل الأمن القومي ووجدت في الحدثين ما تأكيد وتثبيت للتقسيم الجديد في ما يهدف إلى إعادة أدلجة دول العالم أو بمعنى إعادة إدخالها في منظومتها وفي تحليل والمساهمة في هذه القضية كمسألة أساسية والمساهمة في عملية الرد مما يعني أن هذان الحدثان العرضيان يشكلا استثناء والحقيقة عكس ذلك أن الإرهاب أضحى قاعدة عالم اليوم وليس ظاهرة كما يحاول أنصار الدولة الاحتكارية أن يسوقوه، فنحن أمام أنواع عدة من الإرهاب ولا أكثر من الإرهاب النفسي اليومي الذي تعيشه شعوب ما ينعت عليها تعسفيا وإقصائيا بدول العالم الثالث والسائرة في طريق النمو، طريق عبدته لها الدول الكبرى وهو محفوف بالمخاطر ولا يعرف له حد .

وكثرة الاستثناءات في الأحداث المؤثرة تصبح قاعدة بقوة الواقع و عموما ستعمل لوبيات هذه القوى على افتعال أحداث من هذا الحجم كل ما قطعت سابقتها المسافة الفاصلة بين الذاكرة والنسيان.

لكن التاريخ علمنا بأن لكل حرب سلاح إديولوجي وخلفية اقتصادية، ويسهل علينا أن نفهم الخلفية في طبيعة الرأسمالية الأوربية التي تنزع إلى استغلال الأخر لكن هذا الفهم قد يكون مغلوطا من أساسه ما لم نفهم السلاح الإيديولوجي المغذي لهذه النزعة وسيكون وضعنا محتشم في إنتاج أو حتى إعادة إنتاج خطاب قوي لصد هدا التجلي الذي قد يكون مقبولا على اعتبار أن الرأسمالية تعمل بمنطق الثوابت والمتغيرات في تطورها ونحن نرى كيف اكتسحت العالم بغطاء الحداثة والليبرالية ..

فلحد قراءاتنا للوضع في ظل احتدام الصراع بين القوى المعارضة والرئاسة في كل من سوريا والأوضاع في باقي الدول التي عاشت امتداد الربيع . فما يحدث اليوم يدرج في نطاق تحصيل حاصل ، لأننا استبقنا الحدث ليس علما بالمستقبليات ولكن إعمالا بقاعدة الثالوث الزمني في كون الماضي يوجه المستقبل انطلاقا من فهم للحاضر ونحن لسنا في سعي الى فلسفة التاريخ التي تحاول أن ترسم لنا التاريخ في شكل مسلمات ببداية ونهاية وبقدر حتمي مرسوم. تحليل قاد فوكوياما إلى القول بنهاية التاريخ عند حدود النموذج الرأسمالي وتجاوزته الماركسية في ذلك عندما نظرت للرأسمالية كمرحلة ليست الا لن تطول ببداية نموذج اشتركي في إشارة إلى بداية تاريخ للبشرية وليس لجزء منها تاريخ يسع الكل .

والأمور تسير هكذا لذلك أمكن القول بأن أمريكا ستحاول تصحيح خطأ ارتكبته حين قررت وضع إستراتجية سحب الجنود من العراق ، بعدما أدركت مساعيها الإستراتجية الكبيرة كما اقتنعت بأنه مهما كلف الثمن من وجود اليوم فهو سيكون ربحا مقارنة مع ما ستخسره في حالت الانسحاب لأنها حتما ستكون مجبرة على العودة أو التخلي عن الريادية العالمية والرقابة على العالم ونحن نرى اليوم كيف تعمل دبلوماسيتها على مفهمة قراراها في مرحلة أولى كتكتيك لجس نبض المحيط قبل الإقرار بالعدول عنه كخيار وما يوازي ذلك من تحرك عسكري في مناطق أخرى من الاقليم.

لذلك فتنظير وهواجس الساسة وخبراء العسكر حول داعش أو دامس لم يعد لها معنى على اعتبار أنها ليست إلا ذريعة أروبية لشرعنة البقاء الحالي آو التدخل المستقبلي في شؤون دول العالم الشرق الأوسطي أو الشمال الإفريقي. ودعم الأنظمة التقليدية المتحالفة بسبب ضبابية الرؤية فيما ستؤول إليه أحوال البلاد بعد ما نفذ الصبر، فالربيع العربي جاء فجأة وغرب الحداثة والعقلانية يحب الدراسة والتخطيط لا المفاجأة .

والظاهر أن اكبر هم لأمريكا هو امتلاك ثروات العالم بأقل تكلفة -عدة وعتاد- ممكنة ثم محاولة إعادة تقسيم التاريخ بأمريكا كمركز ليس المركزية كما كان متعارف عليها في إطار التناوب الحضاري، سبارطا وأثينا الى روما ومكة إلى غير ذلك. ففي ما كان التاريخ لا يقبل إلا صنفين قبل ميلاد المسيح وبعد الميلاد و قبل هجرة وبعد الهجرة بمركزية أوربية وعربية أصبح اليوم العالم اليوم يتحدث عن ما قبل 11 شتنبر وما بعده كتأريخ جديد.

من هنا تتوجب التعبئة للدفاع عن التاريخ حتى لا يطاله الافتراء والقبول بالتحقيبات الإجرائية في استنباط المعنى والحكم منه لا يعني ضمنيا القبول بأن يخضع هذا التحقيب لهوى كل من عانى من العيش خارج التاريخ. في إحدى أزمنته فالزمن التاريخي واحد لا يقبل أن تبثر إحدى محطاته بمبرر غياب قوى مجهولة بالأمس غدت مؤثرة في القرار إن لم نقل هي مصدر صنعه وتصديره اليوم.

وتاريخا اصطبغ بالصراع الديني الحروب الصليبية أو الفتوحات وإن كانت برسائل دعوية وأحيانا بالقومي والعرقي ثم الاديولوجي فإن أهدافه اقتصادية، كما يتبين من التهافت الراهن هو حول النفط وبعده المادة الحيوية بما لا يترك مجال للانسياق وراء دعاية محاربة الإرهاب.

وفك شفرات لغز السيطرة وبسط النفوذ على الباطني والظاهري من ثروات العالم لن تتأتى إلا بالعمل على زعزعة أمن واستقرار البؤر الأكثر حساسية وإذكاء روح النزعات على مختلف تقاطباتها الايديولوجيىة وتجاذبتها العرقية والدينية. وطبعا منطقة الشرق الاوسط تتصدر قائمة البلدان الثرية وبالتالي فهي المعنية بمسائل زعزعة الاستقرار لكن استهداف النموذج التونسي لن يكون تبعا لما يروج له لأن تونس العلمانية أو الحداثية قد تستهدف من طرف ميلشيات تتبنى أطروحات دينية متشددة وقد يكون وهطا هو الجديد من طرف ممن يخافون في أن يكون هذا النموذج مصدر الهام لمن بعثرت أوراق شأنه الداخلي وأصبحت أموره تسير من طرف الخارجي تبعا لأجنداته كما هو الشأن بالنسبة لليبيا أو ممن بقي صامدا ومحافظا على استقرار نظامه بعد أن قاومت جيوبه التغيير تارة واستطاع تحوير نقاش وتغيير اتجاه الربيع العربي تارة أخرى.

وطرح للقضية من وجهة النظر هذه ليس تفسيرا للتاريخ من بؤرة سببية واحدة قوامها الاقتصاد وإنما هو إظهار كيف أن الاقتصاد كان عاملا حاسم ومؤثر أكثر من غيره دينيا كان أو سياسيا…

وإذا كان هذا الطرح يستدعي التبرير والبرهنة فمناقشة العولمة والاستثمارات و السياحة… كفيلة بالإجابة عن ذلك إذ أن استتباب الأوضاع الأمنية في الشرق الأوسط أو إفريقيا من شأنه أن ينعش دينامكية الاستثمارات لكن خارج إطار أوربا الشيء الذي سيضع اقتصادياتها في وضع حرج وربما تتأثر المركزية الأوربية بهذا لتعيش أزمة الهامش إذا ليس لها صالح في نجاح النماذج العربية حتى لا تكون مرجع.

عكس عدم الاستقرار الذي سيقوي وضعية الباطرونا في مختلف هذه البلدان وتعزيز روابط التبعية للمؤسسات الدولية وصناديقها الربوية كاستفادة من هذا المناخ ومحاولة ترجمته إلى مكاسب عبر التأثير على توجه الدولة في مجال توسيع المحفزات والضمانات المقدمة للاستثمار الأجنبي، بالمطالبة بمزيد من الإعفاء الضريبي وإضفاء مشروعية وهمية على التملص الضريبي، وتجاوز ذلك إلى التأثير في صناعة القرار السياسي مما سيؤدي إلى انهيار الدولة بسبب إفلاسها واستنزاف خزينتها التي تقوم في جزء من مداخليها على الضرائب، من جهة ثم إيهام شعوب هذه العوالم بكون الرهان المطروح هو البحث عن الأمن القومي، بدل الأمن الغذائي.

وفي حالة المغرب نجد صدا لهذا بحيث أن تبلور رأسمال خاص خارجي وتحالفه مع الارستقراطية المحلية شكلا برجوازية قادرة على فرض خياراتها على النظام السياسي القائم وهو ما يفسر الرد القوي لهذا النظام على الانتقادات الأكاديمية التي شملت العقود الأولى من خروج فرنسا الإدارية والعسكرية من المغرب وهي الانتقادات التي تركزت في إبراز مدى عجز الرأسمال الخاص على الدفع بالنمو الاقتصادي والتناقض الذي تمخض عن انسجامه مع نظام المخزن التقليدي علاوة عن التعارض القائم بين الرأسمال الأجنبي والتراكم الاقتصادي الوطني.

هذا الرد تم تجسيده في تبني سياسة التقويم الهيكلي في ثمانينيات القرن المنصرم التي ردت بدورها الاعتبار للرأسمال الخاص كأداة أكثر فعالية لإحداث النمو على حساب تراجع القطاع العام الذي يشاع عنه كونه لم يعد مجال للتدبير العقلاني من اجل المصلحة العامة بقدر ما هو مجال لتبذير وإهدار الموارد وتسخيرها لإغراض السياسة والمصالح الخاصة، وهذا أمر مردود عنه نظرا لتناقضه المبدئي لان المتعارف عليه في النظريات والأطروحات الاقتصادية أن القطاع الخاص في مفهوميته هو مجال خدمة المصلحة الخاصة بامتياز لاستناده على مبدأ تراكم الثروة والعمل المأجور والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.

إلا أن جعل القطاع العام يبدو في شكل الصورة المراد إشاعتها ليس كونه حقيقة الفضاء وإنما يرجع ذلك الى طبيعة الأنساق السياسية وبتعبير أخر فالمشكلة في أصلها أزمة نظام سياسي ومن البديهي أن يدافع النظام السياسي المغربي على الخوصصة وقطاعها لأن قاسمهما المشترك ينهل من البنية التي هي الاحتكار والملكية الخاصة. لذلك فالدول الغربية تحس وكأنها في مواطنها الأصلية وتشدد على المغرب كحليق أمني واقتصادي في حين تترجل في تصريف مواقف في القضايا السياسية التي يترافع عليها في المنصات القانونية الدولية فكيف يفسر ذلك؟إن لم يفسر باعتبار المغرب ليس الا حليف ظرفي من ناحية وفي قضايا معينة ومحددة وفقا لمصالحها من ناحية أخرى .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.