الحَــدَاثَـةُ التي تُفَرّقُنَا

0 322

منذ زمن بعيد والصراع قائم بين المتشبثين بالماضي وموروث الأجداد والذين يَدْعُونَ إلى التخلص منه والعيش في الحاضر بما له من تقدم وتطور في شتى المجالات. وكُلّمَا انتَقَدْنَا شَيئا يَمُسّ بدِين وبثقافَة وخُصُوصِيّة مُجْتمَعنا نُواجه من طرف البعض، بكلمة «كن حداثيا «! ولعل الكلمات التي تدور في فلكهم حينها هي من قبيل: يجب أن نكون مثل الغرب الذي تَخَلّصَ من عُقدة الدين والتقاليد والقيود، وننطلق نحو التحرر ونحو ” فكر إنساني كوني”. هي ذي “الحداثة” التي ستنقدنا من براثين التخلف!

المجتمعات غالبا ما تميل إلى الاحتفاظ بثقافتها وتقاليدها، وموروثها بصفة عامة. وتجدها تتصدى لما هو جديد وغريب عن نطاق تصوراتها. فهي تقاوم كل ما يُهدد هُويتَها ووُجُودها. فَتَعْتَرِضُ بشكل قوي على كل من يحاول زعزعة ثوابتها، وقد يصل الرد إلى حد العنف.

وفي المقابل تجد من هؤلاء، ممن تأثر بتقدم الغرب، غير مُبالين وغير مكترثين بهذا الموروث، بالخصوص الديني، وتجدهم يسخرون منه. يجمون كل سخطهم عليه ويعتبرونه سببا رئيسيا في تخلفنا واحتلالنا للمراتب الأخيرة بين الأمم.

فهؤلاء لا يمتون بصلة ب «الحداثة «بمفهومها الصحيح، وإنما غالبية أحكامهم اتجاه ما هو داخل في موروث المجتمع نابعة فقط من عاطفة مشحونة بحقد وكراهية لطرف يُدافع عنها ويخالفهم إيديولوجيا. فالطريق إلى الحداثة لا يتأتى بالاحتقار والسخرية من أشياء داخلة في الثقافة التي ننتمي إليها. والسبيل إليها، كما يرى الجابري، لا يتأتى إلا بالحوار والنقد للتراث. هذا التراث الذي هو “الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني” للمجتمع… فكيف يريدون تحديث المجتمع دون احترام جميع مكوناته واحترام جميع معتقداته؟  

إن الحداثة التي يريدوننا أن نتبناها ماهي إلا تقليد لبعض ما أتى به الغرب ووصل إليه. وهي تدخل في إطار حملة التخلص من الدين في الحياة العامة. ولا تدخل أبدا في روح الحداثة التي تنبع من داخل المجتمع بخصوصياته وتحاول التجديد والابداع من داخله. وليس التهكم من تراثنا والاتيان بنسخة جاهزة ومحاولة فرضها على المجتمع بدون أي حق.

لقد أصبح ما يسمى ب «الحداثي «مثل ذلك “السلفي” الذي لا يهتم إلا باللحية والتقصير وينسى جوهر الدين الحقيقي. فهذا المتدين الذي ينتظر تغييرا قد يأتي من السماء، يبقى عبدا لنصوص اجتهادية في الدين. ولا يقبل أي تجديد. وهذا “الحداثي” ينتظر بدوره تغييرا يأتي من الغرب ويبقى عبدا لما يُصدره هذا الأخير من أوامر.

ولكي تسمى “حداثيا” في عصرنا هذا وفي بلداننا، ما عليك إلا أن تحفظ بضع جُمل وتُرَدّدُها في كل مناسبة، من قبيل: الحرية الجنسية للأفراد ومساواة المرأة مع الرجل، تخلفنا سببه الدين الرجعي والظلامي… مع التناسي التام للمشاكل الحقيقية التي يعاني منها المجتمع، من غياب للديموقراطية التي تعتبر من سمات الحداثة، ومن تجاهل وتهميش الكثير من النساء اللائي لا يزلن في أعالي الجبال يقمن بالأعمال الشاقة كل يوم، ولا يعرفن ماهي هذه الحرية الجنسية ولا المساواة ولا الدين أصل التخلف، إنما هن يقاتلن من أجل سد رمق العيش وتوفير حطب التدفئة لأبنائهن في أيام الشتاء القاسية.

لا شك أن الفهم الحالي للحداثة وللدين ليس كما ينبغي، لدى نرى أنه يجب أن ننطلق جميعا إلى عقل حداثي «عقل الفعل والعمل والابتدار «كما يقول عبد الله العروي. ولا يجب بطبيعة الحال الانسياق لفكر رجال الدين الذين يعتقدون أنهم وصلوا للحقيقة المطلقة، والذين يشلون حركية العقل، فتبقى خطبهم ومواعظهم وبكاءهم مجرد كلمات تُجهش العواطف دون أن تؤدي إلى ممارسات فعلية على أرض الواقع. كما لا يجب أن ننصاع لهؤلاء “الحداثيين” الذين ينشرون ثقافة الكره للأديان، والذين يعتقدون أن الحل الوحيد للتقدم لا يملكه غيرهم، وأن اتباع الغرب هو سبيل النجاة. مالم نُبادر من داخل مجتمعنا وما لم نتحرر من قيود الاتكالية والتقليد وعدم قبول الاختلاف، فلن نرى ذلك النور الذي نصبوا إليه جميعا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.