الأساتذة المتدربون بين الإصرار المعنوي والقصف المخزني -مقاربة تحليلية-

0 367

كثيرة هي القضايا التي تعرف أخذا وردا بين جانبين مختلفين، فالأول يكون مسؤولا رسميا يفوض الأمر اتجاهه، والآخر يكون محايدا ينحاز لرأيه وفكره، فلا يكاد المستمع يرجح رأيا على آخر بناء على الأدلة التي يستند إليها كل فريق، ومن القضايا التي عَمَّرَت الشارع العام المغربي “ملف الأساتذة المتدربين بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين”، ولذلك سنسلط الضوء على هذا الملف بإعطاء مقاربة تحليلية تفسر بعض الأوضاع التي قلقت الشارع العام إضافة إلى بعض المسؤولين على القطاع.

من المعلوم من الواقع بالضرورة، أن حق التظاهر حق مشروع للمواطنين، حتى اعتبر مسودةً ضمن الدساتير الدولية، ناهيك عن اعتبارِه شارةً تَعبيريةً لردِّ الاعتبار ولفتِ الانتباه إلى التشهير بالحقوق المُهْضَمَةِ، لكن حقيقة الواقع تبين أن الدول التي تدعي الدفاعَ عن حقوق المواطنة والأفراد، والسماح بالتظاهر سِلْمًا للتعبير عن الحقوق، هي الأخرى تُظْهِرُ وجها وتخفي الآخر، وكثيرا هي التي تجعل من النفاق السياسي حاجةً لتمرير قرارات استغلالية استخرابية، والناظر إلى الدول الأوروبية وما جاورها من دول أمريكا يرى الحقيقة على مَضَضٍ، فالداءُ مستشرٍ في ذلك العالم، لأنه يحاول تكريس الطبقية، وفرض السُّلَطِ بالعصي والإكراه، وانتقل الأمر إلى العالم الثالث، كما فُعِلَ في مجموعة من الشوارع العربية إبان ثواراتها واحتجاجاتها السلمية، مما جُعِلَ حفظ الأنفس مقصداً رادعًا للأشخاص، وبالتالي التنازل عن مطابهم، ليس خوفا على حياتهم فحسب، وإنما امتثالا لسنة التدوال “الخوف من كثرة الهرج”، لكن ومع ذلك يظل أناس لهم من العزائم ما تفتق البيان فتجعله حَانِيًا قائما.

ذكرت هذا السياق للتعبير عن قضية مثارة حالا بين الحكومة والأساتذة المتدربين في ملف مرسومين قاضيين بإلغاء التكوين بالتوظيف، ثم تقليص المنحة.

قضية الأساتذة المتدربين بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين واحدةٌ من أولئك، بغرض إلغاء مرسومين مجحوفين ظالمين لحق الأساتذة المتدربين من الالتحاق بالوظيفة؛ التي تعتبر مستندا ماديا ومعنويا للأستاذ في وطن لطالما ضُحِّيَ فيه بالغالي والنفيس من أجل أن يَكُونَ فيه أطارا قادرا على تحمل أعباء المستقبل، لكن وَاجَه ذلك بطشٌ – والله أدرى – ممن خطط له من أجل إخماد نار لم تشتعل بعد، فكان النصيب ضرب وشتم وتهميش للمعلم الذي قيل فيه:

قم للمعلم ووفه التبجيلا ========= كاد المعلم أن يكون رسولا

غير أن الناظر إلى الواقع والحال ما هذه، يرى العجب العجاب، كيف للمثقفين أصبحوا يَشْبَعُونَ بالهروات والعصي من أجل إِخماد حسهم النضالي وإكراهم بالرِّدَّةِ إلى القَبُول بالمرسومين، والاعتراف بأنفسهم كطلبةٍ متدربين، وليس باعتبارهم أساتذةً متدربينَ، مع العلم أنهم وَقَّعُوا عريضةَ (وصل التسجيل) في بعض المراكز باعتبارهم أساتذة.

ناهيك عن ذلك، وإنما موقفنا من الجلَّاد المخزني الذي يقصف كل أستاذ حاول التظاهر لا لأجل إسقاط النظام، ولا المطالبة بإسقاط الحكومة، ولا معاشات البرلمانيين، وإنما الهدف كان واضحا؛ وهو سقوط المرسومين، مع الموافقة شبه تامة للتكتم الإعلامي، والجمود السياسي للحكومة اتجاه هذا الملف، مع العلم أنه لا يمثل حجم صندوق التقاعد أو الضمان الاجتماعي، أو… لكن لا أدري لما هذا التعنت الذي قد يؤدي بالبلاد إلى سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، ولا ينظر إلى هذه الوفقات الاحتجاجية بناء على فوضى عارمة أو إلى نكسة قاصمة، بل الغرض الضغط على الحكومة من أجل أن تتحاور معهم لتفك بعض خيوط القضية، حتى يفهم الوضع ويسير نظام التربية والتكوين وفق الإصلاح البيداغوجي الذي ابتدئ في العشر سنوات الأخيرة، لكن ما يُؤْسف له غياب رؤية مؤطرة لعمل هذا الإصلاح، فالضبابية تُخيم على القرارات الموجهة، والارتجالية على المراسيم الوزارية وهلم شرا ولا حول ولا قوة إلا بالله

الحكومة بين الانتقاد اللاذع والانصاف العادل

أَيُّ سلطة تضرب الأساتذة جراء مطالبتهم بحقوقهم المشروعة!؟ وتكسر عظامهم لأنهم نطقوا بقول: لا للمرسومين المشؤومين، كأنهم أرادوا الخروج على الدولة أو يشكلوا الإرهاب المنظم!!

فهل من الحقّ؛ أن الحكومة التي ترغب في الإصلاح عليها أن تقطع رأس الإصلاح عن الجسد؟ وتنزل بمشروعاتها التي لا تتوافق وعمق الإصلاح الشامل للمنظومة التعليمية على حساب الأساتذة المتدربين، وتضيع أحلامهم؟

للأسف الحكومة عاجزة – وإن شئت الدولة – عن حل هذا المشكل على بساطته وتجرأت على ملفات ساخنة اتخذتها بمحمل الجد، وتركت مجال التعليم بكل تَهَكّم وتَهَجّن -ربما – اعتقادا منها أن الإصلاح يبدأ بهذه القيود المنكَسِرة، والمراسِيم القاسِية، لا على الأساتذة فحسب، بل على المجتمع المدني وعلى أبنائهم بالخصوص!!!؟

لماذا الحكومة لا تتخذ هذا المجال كما مجال الصحة وتخصص تربويين متخصصين لهم باع في هذا المجال، ويستخبرون الوقع بالتجارب والأبحاث الميدانية؟ لا أن ينزلوا بقيودهم المجحفة، وترانيمهم الفضفاضة على مجال ليس لهم فيه إلا الكلام التنظيري؟ ألم يضعوا نصب أعينهم وهم ينسجون خيوط هذه المراسيم المقلقة شر هذه الانتفاضة؟ وأموال هذه المدة؟ أم يتحاسبون في مسائل تقاضى عليها الدهر وسَلَّم الناس بها؟

إذا كانت الحكومة تحرص أشد الحرص على الإصلاح، لماذا لا تحرص لنا على فك لغز هذا الملف؛ الذي مذ أن صدر والأساتذة له رافضون، والموظفون له غاضبون وأهل المراكز له مشمئزون، فتحرص على تكوين أبنائنا بقرارات بناءة وهادفة، وبتوجيه قاصد، لا أن يضيع الأساتذة في تكوينهم فيضيع من ورائهم جيل من الأبناء، وبالتالي ضياع قرن من هذه الأمة ولا حول ولا قوة إلا الله.

ألا يستحق هؤلاء الأساتذة حقوقهم، بدون أن تسيل دماءهم، ولا تكسر عظامهم، ولا تفقأ أعينهم، ولا يغتصب شرفهم، للأسف نحن سئمنا من هذه الانتهاكات الواضحة أمام تعتيم الإعلام العمومي الرسمي، والتكتم السياسي خاصة أسياد العدالة والتنمية (النخبة الحاكمة، أمام الأبناء أو الجيل غير الحاكم فغالبهم لا يتفقون مع هذه القرارات الغاصبة للحقوق) مع علمهم بمصداقية مطالبهم، وعلمهم الدقيق بمشروعية التظاهر في وسط هذا الوطن الحبيب كما الدستور المغربي لسنة 2011 نص على ذلك.

الدولة تصر بكل أسف وسوء إلى تهميش الفئة المثقفة، وتحاول أو تقمعهم بأحدث الأنشطة وبشتى الوسائل، وعلى رأسهم الأساتذة المتدربون، لماذا يتم تهميش الأستاذ مع العلم أنه هو من يكون السبب بعد الله تعالى في توعية الأجيال، وتكوين الحضارة وبناء العمران، وما هذا القمع الذي تعرضت له المراكز الجهوية لمهن التربية والتعليم ببعيد، وأما ما يعانيه الأساتذة دخل الفصول فمن الأحسن الصمت عليه، مع علم أولوا القرار التدبيري بهذا الخلل التنظيمي والشلل التعليمي، والفشل التكويني، والضعف المؤسسي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.