الإعلام المغربي : المتون الإيديولوجية،للطبخ والبؤس1/2

0 385

لا أعرف، سبب كل هذا الإنزال المطبخي، غير المسبوق زمانا ومكانا،الذي وضع كل عتاده داخل استوديوهات الإعلام المغربي،المرئي والمسموع :برامج بلا مضمون وثرثارة،من طلوع الشمس حتى طلوعها ثانية، تنصب على كيفيات تقشير البصل وسلق البيض والبطاطس،مع وصايا رموز الأكل.بالموازاة،نهم من نوع آخر،يأكل جلود البؤساء ببرامج لم تعد لها من غاية في هذا الراهن المغربي،سوى السعي إلى شق بطوننا،وتعريتها أمام الملأ على طريقة المصابين باضطرابات الاستعرائية،وحشوها حتى التخمة، والتجشؤ، بله التقيؤ،ببؤس حياتي يصعب تحمله.بؤس، بدائي لملايين المغاربة، ونحن في القرن الواحد والعشرين.هكذا،يتلذذ جلّنا على وقع مآسي جلّنا،بسادية كنيبالية،هذه المرة، على منوال أكلة لحم الجيف.

ربما، حين تقليب الأمر من الناحية الشّرطية السيكولوجية،قد يبدو في منتهى التوضيب والتأسيس الإيديولوجي الماكر،لمرشدي ومحركي موجهات سوسيولوجيا، فوبيا الاقتناء كي يفرط الواحد منا في الأكل. بالتالي، قَدرية تحريكه أبى أم كره،لخيوط منظومة الاستهلاك على النحو الذي تسري عندنا،مما يحتم إدمان فرجة تراجيكوميديا،زاخرة بحكايات يوميات، توشك أن تغدو خرافات، لكنها حقيقة.

ينتابك ذعر مرضي شديد، يغيب وعيك، يبتلعك صحن الأكل، جراء شرود المتابعة، تتداخل المشاعر.يتحول الأكل من صحة إلى مرض،حينما يأخذ زمنه إيقاعا، زائدا أو ناقصا، بطئا أو سرعة.تصير، متكرشا سمينا ثم حتما غبيا،تضعف دينامية جسدك،تستكين للذة الغباء والكسل،تتوقف جمجمتك عن صنيعها المفترض،ضميرك لايهتز،يكف وعيك عن الانتباه،يمتنع كبدك عن إفراز هرمونات الحنان، وقلبك عن الارتعاش.تقضي ما بقي في عمرك، جثة هامدة،متبلّد الحواس،تترقب من فرط رقاد اختمار تخمة البطن،المستندة في دورته البيولوجية،وفق مخططات أجهزتنا الإيديولوجية القائمة،على جرعة التحلية أو المقبلات، كما تجسدها المشاهد التراجيكوميديا لقصص البؤس.

برامج الطبخ، وأخرى للتسلي ببؤس حشد من المعذبين ،يعني بلغة أخرى،المائدة الممهورة بنزوعات نفسية سماها فرويد بالتاناتوسية،حيث تلتهمنا، وتلهب جيوبنا،وتسترزق ببذاءة في حواسنا،عبر القوانين السرية لليبرالية المتوحشة، وهي تتعمد بكل الوسائل اختزال الفرد،والانتهاء به كليا، عند جانبه الغرائزي الحيواني، المتمحور تحديدا على المنطقة السفلى.ثم في ذات الآن،نستأنس مع البؤس حميميا،مثلما نتناول الخبز،فيصير بدوره حاجة يومية معتادة وطبيعية،تشعر نحوه بالجوع والعطش وتصاب بقرحة في المعدة أو يؤلمك رأسك،إذا لم تتابع بين كل لحظة ولحظة،تفرجا على مشاهد البؤس،بنفس منطق مسلسل تلفيزيوني، تبتغي متابعته بتشوف.

لا نختلف، أن الأكل حاجة طبيعية، لكنه بالنسبة للمجتمعات المتحضرة التي تٌحترم داخلها قوانين البشر الطبيعة بمفاهيمها السوسيو- ثقافية،يحتفظ بمساحة جد طبيعية،ولا يرتقي إلى متن إعلامي مؤسس ومكرس إيديولوجيا، لأهداف تدجينية.أيضا، البؤس كما يؤدلجه إعلامنا الرسمي،شكلا ومضمونا وتأويلا ومرافعة واتهاما،ليس بتاتا بالتحديد الطبيعي لسياقه وإطاره العام،وأصله ومصدره ونتائجه، ولا ينبغي كما تتوخى ضمنيا برامج الفرجة،أن يصير طبيعيا كحاجتنا للطعام،فيصير كل شيء عاديا ومألوفا،وتموت دواخلنا.

إن مآسي ملايين المغاربة،ليست اختيارات أنطولوجية حرة، بذات مرجعية وجودية سارتر، كما تحاول تضليلنا الأجهزة الإيديولوجية الإعلامية، وعلى منوال رغبة أديب في مثل عبقرية جان جنيه، أن يكون لصا بمحض إرادته وعن قناعة تامة :سوف أكون لصا. لكنها، صميميا تعتبر نتاج سياسات عمومية فاشلة.

هكذا،فالواحد منا أخفق في تحقيق أهدافه الحياتية،حسب وصفات برامج معالجة البؤس ”طبخيا”،ببساطة لأن قوة ميتافيزيقية لانعرفها ك”سخط الوالدين” على سبيل الذكر،لاحقته بلعناتها،حتى انتهى به السبيل إلى تعاطي المخدرات و”التقرقيب” والتسكع والعنف والقتل،بينما المنظومة الوضعية بمسؤولياتها السياسية والاقتصادية والمعرفية والتربوية و..و..و، بريئة براءة الذئب من دم يوسف،مادام قد وفرت أصلا للفرد كل أسباب النجاح،غير أن الأخير، فضل ”نيتشويا” الطريق المعاكسة.كذلك، الطفل الذي غادر مبكرا حجرات الدراسة،ولم يجد له من ملاذ سوى الشارع،ثم استحضرت شخصيته فيما بعد كل مساوئ الدنيا. بدوره، التهم قصدا جل نصوص الحرية، من الكلبيين إلى روسو،وتبنى بمحض إرادته صراعا فردانيا، ضدا على نجاعة وفعالية مؤسساتنا السوسيو-ثقافية،ونكاية في القصد النبيل لمسؤولينا الذين لايتوقفون، ليلا ونهارا،عن خدمة مستقبل صغارنا.

لعل من أكثر اللقطات ألما،الباعثة على الكوميديا السوداء، عندما يحولون جلسات برامج ملء الوقت وتزجية فراغنا أمام خواء مضامين إعلامنا العمومي، ببؤس أفراد منّا، بهدف”تسليتنا” ونحن نأكل، كي نستهلك من جديد ونتبضع في اليوم الموالي ثم نتضبع أكثر فأكثر. أقول، عندما يقيمون محاكمات علنية، أقرب إلى الأجواء العبثية، لرواية المحاكمة لكافكا،بحيث يأتون بشخص فعل فيه البؤس فعلا كل جغرافية تفاصيله،بالتأكيد مصدره أرضيا،وليس ميتافيزيقيا،مما يعني أنه مجرد ضحية،مسارات مجتمعية غير إنسانية بالمرة.يجلسونه،أمام هيئة لجنة من “الدكاترة” و”البروفيسورات” والمتداولين حاليا تحت نعت”الكوتشات”،ثم يشرعون في جلده إنسانيا ورمزيا ومعرفيا ولغويا،بينما صاحبنا المسكين لم يتحسس ربما في كف يده دولارين منذ دهر،ولم ينعم قط منذ ولد بلحظة إنسانية تشعره بوجوده : 

-((شوف !أنت شخص تعاني من عقدة سيكو- لسانية وأحيانا سيكو-سمعية،مبعثها هلوسات تراكمات عقد الطفولة فتضخمت لديك،وتحولت إلى عقدة أوديب، التي كتب عنها مؤخرا الطبيب السويسري… وعليك بالرجوع إلى هذا الكتاب وقراءته،هكذا تسعى بلا وعي إلى التخلص من أبيك والزواج بأمك…،وماعليك سوى أن تزور المستشفى الموجود في دربكم وتداوم مع طبيب نفساني مختص على جلسات،من أجل إعادة التقويم التربوي والسيكولوجي،فالتطبيب حق من حقوق الإنسان، نصت عليه مختلف المواثيق الدولية، في طليعتها الدستور المغربي.…  !!!!!)).

يتابعهم الضحية-الجلاد،بعينين شبه نائمتين،تكشفان عن عوز شديد، لم يستوعب حرفا واحدا مما أدلى به السادة،بخصوص دعوتهم له،كي يهرول نحو إعادة التقويم السيكولوجي،ولن يجرؤ أحدهم طبعا عبر جهاز رسمي،على محاكمة سياسات التقويم الهيكلي،وما أدت إليه من تقويض لمرتكزات بناء مواطن مغربي ينعم بموفور الصحة الجسدية والنفسية،مطروحة أمامه بيسر حقوقه الطبيعية والمدنية.ما احتاجه صاحبنا بحدة لحظة تشخيص ”الحكماء” لحالته،هو فعلا طَبقا غذائيا بسيطا من أطباق كرنفالاتهم المطبخية،يعيد به قليلا من الحياة إلى أمعائه التي تتضور جوعا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.