الخطاب السياسي بين ثنائية النقد و النقض – اقتراحات لتجاوز حالة الانقسام –

0 363

 

ذ. رشيد رملي

    إن الناظر إلى مصطلحي “النقد” و النقض” يجد  بينهما تقاربا لفظيا ، و التقاء طفيفا في المعنى ،فكلاهما يرمي إلى التعقيب على فكرة أو موقف  أو دحضه أو كشف عوراته و سرد عيوبه ،لكن إذا تأملنا بعمق في مدلوليهما و في و ظيفتهما نقف على تعارض و اختلاف بينين وكبيرين.

    فالنقد  على المستوى البيداغوجي له وظائف عديدة نذكر منها على سبيل الذكر :

–         الوظيفة التصحيحية: يسعى الناقد من خلالها إلى التنبيه لمواطن الخلل و القصور في موضوع أو فكرة ما من أجل تصحيحها و تقويم اعوجاجها.

–        الوظيفة التكميلية الاستدراكية: تروم سد الثغرات أو تفصيل المجملات، أو تقييد المطلقات، أو توضيح المبهمات، أو تخصيص العموميات و الأفكار الفضفاضة أو كشف المتناقضات.

–        الوظيفة البنائية: حيث يعيد الناقد صياغة الفكرة السابقة صياغة جديدة من أجل تطويرها و تحيينها   و التأسيس عليها، و إعطائها نفسا آخر وربما من زاوية نظر أخرى استنادا إلى منهج علمي واضح لا يحابي موقفا و لا حزبا ولا طائفة، و لا يتحرج في ذكر فضائل الموقف الآخر  و محاسنه . إن النقد بهذا المعنى عملية صحية سليمة، بل جراحة ضرورية لكل عمل إصلاحي جاد يبتغي الرشد و التجدد المستمر، و السالك درب التغيير يلزمه في كل لحظة عرض نفسه على مصفاة النقد للتطهر من نوازع النفس و من زلات اللسان .

   أما النقض و كما هو في مدلوله اللغوي:” إبطال حكم سابق أو عمل وإفساده و نكث الشيء، فنقول نقضت البناء و الحبل و العقد و الغزل إذا أفسدته “. فهو سلوك هدام لا يرى في الأشياء إلا عيوبها و نقائصها . إذ الناقض لا يكف عن إنزال معاول اللعنة و السخط و كيل التهم و الشتائم على خصمه ، و لا يهدف إلى تصحيح أو استدراك أو تكميل  ، بل غايته و مقصده نسف كل ما هو موجود دون تمييز و لا استثناء ، و قد لا يتورع في مصادرة حق غريمه في الكلام و التعبير عن الرأي .

    للأسف لم يكن هذا الكلام عن النقض الذي لا يخلو من عنف لفظي ومن رشق للكلمات القاسية ،ضربا من الخيال أو التكلف المصطنع بل كانت ساحتنا الثقافية و السياسية مرتعا و مسرحا له ، فلا تكاد ترى في سماء مجالنا العربي إلا سحبا ملبدة بالشتم و السب و القذف من هذه الكتيبة أو تلك، من هذا التيار أو ذاك، وما إن تنتهي معركة كلامية طاحنة حتى تنقشع أخرى و يخرج كل فريق مدجج بالقواميس الغزيرة بالتجريح التي يحشو بها حناجر أنصاره و أشياعه استعدادا لساعة المواجهة المشؤومة. ينتهي النزال و ترجع السيوف إلى أغمادها و يدخل كل جيش ثكنته لتقييم المعركة ، و على قدر قساوة العبارة و الإيغال في التشنيع ضد الخصم يحدد الرابح و الخاسر ، ثم يبلل كل طرف ريقه بسيل غير قليل من الطعون و النعوت الشديدة و يلملم عورات نده و يلتقط زلاته ليكون على أهبة الاستعداد و كامل الجُهُوزية لوقت النزال .

   ذلكم مقطع مستعرض من واقعنا العربي المنقسم حول ذاته ،  و الذي يختصر مشاكلنا و أزماتنا الهيكلية في حروب كلامية ضروس لا تزيد هذا الجسد إلا ترهلا و انشقاقا ، و يغطي أفقنا بدخان كثيف من الاصطلاحات العامة و المزايدات الخاوية والمشحونة بعقاقير الطعن و اللعن ، ليحجب عنا جواهر الأشياء و عمق الأزمات ، يحجب عنا همومنا الحقيقية في النهضة و ينغص علينا أحلامنا التنموية ،و يفش عجلات إقلاعنا الاقتصادي و يعقد تحدياتنا المستعجلة ، في معارك جانبية غرضها التشويش و الفرملة.

         إن هذا الاصطراع الداخلي و هذا التجييش الأيديولوجي و الحروب الكلامية السائدة بقدر ما تؤشر على عجز بعض النخب على التعاطي الايجابي مع مكتسبات اللحظة ، ومع خيارات الشعوب بقدر ما تدل على حالة الانقسام و الانفصام الحادين في الوعي .و لن يفيدنا استعراض دفعات كل فريق و إفاداته – وإن كان بعض ذلك الفريق لا يملك دفعات بحكم أن الشعوب جربته لأكثر من عقد فسقطت شعاراته – ولن ينفعنا أيضا تحديد من الأسبق. لكن الواضح أن الضحية الأولى سيكون هذا الجسم العربي المكلوم ، الذي  يظهر أن حلقة من بنيانه لا زالت مفقودة ، ألا وهي حلقة الوصل و الجسر، حلقة رتق هذا الفتق بين جميع  الفرقاء . و أنا أدرك بأن ذلك ليس تمرينا سهلا، بل الطريق إليه مسيج بالأشواك ، ومحاط بالعقبات . لكن ألم يئن أوان الخروج من قمقم هذا السبات و هذه النعرات إلى فسحة الإنصات ،و التوافق و النقاش البناء و التركيز على المشترك و تأجيل المختلف فيه تحت قاعدة ” نتعاون فيما اتفقنا عليه و يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه” ، و نغلب المصالح العامة على المصالح الخاصة ، ومصلحة البلاد على مصلحة الحزب و العشيرة و القبيلة. وكم هي واسعة و شاسعة مساحات اللقاء و الالتقاء على ساحات الفراق و الشقاق.

        لقد ضيع العقل العربي عقودا من الزمن في مواجهات فارغة دون إيجاد صيغة لزحزحة الوضع القاتم و لملمة جراحه ، و اليوم وبعد الجو الخصب الذي وفره الربيع العربي الديمقراطي، نحن في أمس الحاجة لمنهج موضوعي يبحث في سبل لإعادة جو الثقة بين جميع الأطراف المتناحرة،  و تجاوز الفكر المبني على التقابل و التناقض و الثنائية لينتقل الجميع إلى تكريس هذا الوعاء الجامع للكل، وهو ” الوطن” و الانضواء تحت لوائه . و الذي يتسع و يرحب بكل فكرة خلاقة ويفتح  أحضانه للنقد البناء .و تلك لعمري منطلقات و رهانات كفيلة باستيعاب الكل و امتصاص الاختلافات و

تذويبها، بنفس تشاركي هدفه الأساس، حسن تدبير الاختلاف وردم الهوة و الإجابة عن هموم شعوبنا و تحقيق أحلامها في الكرامة و التنمية و العدالة الاجتماعية .وأحسب أن استدعاء القيم الوطنية و الثوابت الجامعة، و التخفيف من حدة الخطاب الأيديولوجي ، وتغليب النقد الموضوعي العلمي في معالجة قضايانا و تحديد الأسئلة الحقيقية  للمرحلة و تدقيقها ووضوح أهدافنا و غاياتنا  ، و التحلي بالنظرة الشمولية للواقع و عدم الانزلاق وراء الخطاب التجزيئي الانتقائي و تحديد المسؤوليات وربطها بالمحاسبة. أحسبها مقترحات هامة في رسم قسمات المجتمع المنشود و ملء حلقاته المفقودة .     

   و في انتظار ذلك يبقى الوعي بهذه القضايا و بخصوصية السياق الذي نعيشه –سياق الربيع العربي- و ضرورة استثماره مدخلا أساسيا للتغيير و النهوض.

           

  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.