مآل الإنسانية من سقراط إلى ميسي

0 486

أذكرفيما أتذكر،من حكايات مدرسة بداية الثمانينات،وأنا في سلك الإعدادي،أن أستاذ مادة الاجتماعيات،وهي الحصة التي بقيت أعشقها كثيرا،لايوازيها في هذا المقام غير الفلسفة،باغتنا ذات ظهيرة بسؤال، وأغلبنا قد استغرقته شبه قيلولة بسبب قيظ مراكشي ساخن،عن مدى معرفتنا بسقراط؟.

سعيـد بوخليـط – باحث مغربي

أسرع أحد التلاميذ برفع أصبعه،وتنبجس من عينيه ثقة عالية في مايريد قوله،تجلت بوضوح عبرترديده المتتالي لنداء : “أستاذ،أستاذ،أستتتتتتاذ”. أيقضنا بقوة،من سباتنا الصحراوي، التفتنا صوبه جميعا،تلهفا لسماع جوابه، لاسيما وأن صاحبنا اشتهر بمستواه العلمي الضعيف.
أشار عليه الأستاذ بالتكلم ،فلم يتردد التلميذ بأن تفوه بعبارة أغرقتنا في ضحك هستيري،استعاد صمت الأموات فقط،لما انقلب الأستاذ إلى وحش كاسر يرغي ويزبد ويصرخ صوب كل الاتجاهات،ملقيا بأنواع من الشتائم ماصلح منها ومابطل في وجه التلميذ،ومتوعدا إياه بشتى الويلات والتبور،ثم قاذفا المسكين خارج الفصل إلى غير رجعة بركلة لولبية على مؤخرته،ولن ينعم قطعا مرة ثانية بمقعده الدراسي،حتى يحضر معه إلى إدارة المدرسة،السلالة السابعة لأولياء أمره،إلخ.
أتدرون،ماهو التلفظ اللغوي الذي فجر كل هذه العاصفة الهوجاء؟
-“سقراط،ياأستاذ،لاعب المنتخب البرازيلي”.لقد اعتقد اعتقادا صادقا فيما أدلى به،ولم يكن الأمر تهكما،لأنه والحق يقال،أفراد جيلي كانوا يخشون المدرس جدا،ولم نكن نجرؤ حتى تخيلا،على ارتكاب صنيع من هذا القبيل.
مناسبة الإحالة الخاطئة،أن تشكيلة فريق السامبا،ضمت آنذاك فعلا بين صفوفها لاعبا مشهورا يحمل هذا الاسم،يقال أيضا بأنه كان طبيبا.لكن نهايته،لم تكن سعيدة،لما أدمن الكحول بعد نهاية مساره الكروي،ومات قبل الأوان.
بالمطلق،لم يكن الأخير،نموذجا لأفق الأستاذ،وهو يستحضر بمتعة تفاصيل الحضارة الإغريقية،بل أراد بكل بساطة شغفا جامعا مانعا بالفيلسوف سقراط،ربما قدم له ارتياحا نفسيا بخصوص توجهنا في الحياة،بجعل الحكمة والمعرفة العميقة،هاجسنا الأول والأخير.
أستحضر هذا المثال،بمثابة وجهة نظر ناقدة، قد لاتجد ترحيبا لدى أفراد الجيل الحاضر،ومدرسيهم الشباب الذين انزاحوا بمائة وثمانين درجة،عن مرجعية وأسانيد وقصديات وأحلام،زمرة مدرسنا المشار إليه أعلاه،الذي علمت صدفة عن طريق بعض معارفه،أنه قد رحل عن هذا العالم يائسا ومتذمرا من المنحى القيمي الغريب والسوسيو-ثقافي الجديد،الذي أطفأ كليا شعلة القيم الكبرى،وأضحى لايفرز غير الغباء.
من المفترض،ممارسة التاريخ لحقه،لكن ليس طبيعيا أن يجرف كل شيء تشوفا لأي شيء.كما أن التاريخ،قبل كونه مقولة مجردة،يجسد سياقا لكائنات حية.
فيما مضى وبالضبط عقدي السبعينات والثمانينات،اعتبر أهل تخصص الاجتماعيات،من النخب الطليعية التي ابتغت للمدرسة ومن خلفها المجتمع المغربي،مشروعا حداثيا وتقدميا.السبب،يعود بغير أدنى تفكير،إلى معرفتهم الموسوعية بالتراكمات الزمانية والحضارية، و ماتخلقه في أمخاخهم من وعي تاريخي ثاقب، بنوعية مرتكزات المنظومة المجتمعية القائمة،ثم العتبات الممكنة للتجاوز.يستوعبون،أكثر من غيرهم،الحدود الابستمولوجية الفاصلة بين العلم وسياق المفهوم والإيدولوجيا،وتأرجح الأخيرة بين الوعي الزائف(التكريس)ثم الحس التاريخي(التغيير).
إذن، التلميذ وقد حدث لديه خلط بين الحكيم سقراط،بسقراط لاعب الكرة،ارتكب زلة معرفية جسيمة بناء على وضعية المدرسة المغربية آنذاك،وهو ينحدر بالفلسفة كمنظور إنساني أصيل،للتحرر من عفن الإيديولوجيا،إلى مرتبة كرة ارتقت لدينا من مجرد فيزياء جسدية،إلى أدلجة ماكرة تنبه لها جيدا خبراء الحس اللا-إنساني ،بهدف بناء تجمعات منخورة عفوا روبوتيكية،صنمية،توثينية،نمطية،لايفهم أفرادها غير الخطاب الكلياني والوحيد.ألم تلاحظوا،أنه قد أضحى موضة،بل قدرا يتفنن الجميع في تمثل أقصى مناحيه،والاجتهاد في مراكمة الطقوس والأنماط الإشارية والخطابية والسلوكية؟التئام جحافل من البشر،كي يشاهدوا مباراة في كرة القدم،لاسيما مع هذه الأندية الكبيرة التي صارت تشبه شركات عابرة للقارات،وعناصرها غدت لهم مكانة القادة التاريخيين.
في ظل السجال ذاته،لكن مع بروز فارق سوريالي،حيث انتهى أستاذ الاجتماعيات إلى غير الملهم السقراطي،والكرة انتفخت فوق الفائض،مقابل مزيد من تفريغ لحمولة العقول.
التقيت مؤخرا صدفة،مدرسين يتأبطون شهادات جامعية في التخصص عينه.بعد جمل الود والمجاملة،شرعنا نناقش موضوعات عامة،لكني حدست بأنهم لم يكونوا على سجيتهم،ويطويهم ارتباك ما، فيستعجلون أمر النقاش.فجأة، حدث هرج ومرج،أدرت عنقي صوب الضجة،بدت لي حشود تلج باب المقهى مثنى وزرافات.
ماكدت أستعيد وضعي الأصلي،حتى اعتذر مني الزملاء مسرعين إلى مقاعد أمامية،شدوا وثاق بعضها إلى بعض بحبل منذ الصباح،كدليل على أنها محجوزة وغير شاغرة.حرب مخابراتية،ومهارات جيو-ستراتجية،كي يستبقوا مكانيا،الصغار الذين يدرسون عندهم،في سبيل ماذا؟الالتصاق أمام الشاشة،من أجل متابعة حرفية وخطية لمقابلة كروية بين برشلونة وريال مدريد.
بالتأكيد،في اليوم الموالي،سيطرحون معهم في الفصل،نقاشا يتعلق مضمونه بإشكاليات الخطة ومنطقية النتيجة وميسي ورونالدو،ومنذئذ لن يحق لهذا المربي المستلب أن يحث التلاميذ على التفكير الحر والجد والاجتهاد واستثمار الوقت بشكل معقول،مادام هو ذاته في حاجة ماسة إلى إعادة تكوين معرفي وتهذيب تربوي، لم يستوعب بعد، نهاية العلم وبداية الإيديولوجيا.
وبما،أن الشيء بالشيء يذكر، فحينما تسأل حاليا تلميذ التخصص العلمي عن مدى معرفته بنظرية أينشتاين،سيجيبك بكل بداهة أن “ميسي” أرجنتيني انتقل إلى برشلونة !!!وعندما،تخبر تلميذ الآداب،بوجود رموزمن طينة طه حسين،يساجلك بأن “رونالدو” يأكل كذا ويصاحب في أماسيه تلك.
فما نصيب الغثيان السارتري،في هكذا مواقف؟؟.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.