بساطة العيش

0 333

باسم السميع المجيب، والصلاة والسلام على الحبيب، يدخل هذا المنشور ضمن سلسلة من التأملات المقارِنة بين المغرب باعتباره موطني ومَعْدِني، وفرنسا باعتبارها دار مقامي على حاجة أقضيها. والهدف من هذه التأملات انتقاء النقاط الأساسية التي أرى أنها تشكل سببا في تقدّم الفرنسيين أمام المغاربة.

أشتغِل الآن كمتدرب داخل شركة ذات نطاق عالمي، تضم هذه الشركة حشدا من غَطَارِفَة المهندسين الفرنسيين الذين تُضرب إليهم أكباد الإبل، يتقاضون رواتب عالية تسعهم للاستجابة لهوى النفس وتحقيق أمانيها، ويشغلون مناصب تحدد مصير الشركة ومستقبلها، ويتسابق نحوهم الناس لطلب العلم وأخذ المشورة.

ومن هم هؤلاء؟ إنهم ذلك الرجل الذي لا يقوم بتلميع حذائه كل صباح، ذلك الرجل الذي ينتظر الحافلة، فإذا ركبها جلس بين الناس أو ظل واقفا إن لم يجد مكانا، ذلك الرجل القادر على شراء تلك السيارة الفارهة الفاخرة، لكنه اختار اشتراء تلك السيارة العادية البسيطة، ولو رأيتهم لظننت أنهم ينقصهم الذوق في المظهر، وأنهم لا يعرفون اختيار اللباس الحسن الجميل، وعلى ذكر الذوق أستوقفكم لسؤال: من يتحكم في الذوق يا تُرى؟ هل نحن بأنفسنا (كما نظن) أم أنه يُفرض علينا؟ لو كنا نختاره بأنفسنا لما وجد شيء يسمى الصيحات أو الموضة. ولو أخذت لباسك الحالي الذي يعجب الناس، وخرجت به في عصر العباسيين مثلا، هل يا تُرى كان ليعجبهم؟ أم سيضحكون على هيئتك وذوقك؟ المتبادر من هذا أنه لا يمكن الحكم على ذوق الشخص من خلال مظهره، ولا تقل أن فلانا لا يعرف كيف يختار لباسه. وانظر إلى هؤلاء المهندسين، فلو أرادوا اتّباع الموضة لفعلوا، بل إن الواحد منهم قادر على تعيين مصمم أزياء خاص به، فلماذا يا ترى لا يفعلون؟

لطالما ظننتُ أنهم لا يهتمون بأنفسهم، وأن انصرافهم للعمل جعلهم يفقدون الذوق الحسن، ولكم من مرة (سامحني الله) استهزأت بأحدهم وضحكت في قرارة نفسي من شكل حذائه أو سرواله، وقد طال عجبي لأمرهم حتى أدركت الحقيقة: إنهم ببساطة لا يريدون اتباع ما نسميه موضة، ولا يريدون لفت أنظار كل من يمرون بجانبه، ولا يريدون الخُيَلاء والعُجْب بأنفسهم، إنهم ليسوا ماديين ولا تهمهم المظاهر، فهم ينظرون إلى عقل الرجل لا إلى رسمه، وفضلا على هذا، هم ليّنوا العريكة، إذ تستطيع التكلم والبسط معهم بحرية تامة كأنك مع بعض أصحابك، وها أنا ذا لم يمر على وجودي بينهم سوى شهرين، ولست بعد إلا مبتدئا، ولو رأيت أحدهم يكلمني لظننت أنني ذو شأن، هذا لشدة تواضعهم وبساطة تعاملهم مع الناس.

وهذا مدير المشاريع الذي كنا بانتظاره في ذلك اليوم ونحن جماعة من المتدربين المبتدئين، وعندما دخل الغرفة حيث ننتظره لم يجد كرسيا شاغرا يجلس عليه، فماذا فعل؟ جلس على الأرض بكل بساطة، وكانت الصورة كالتالي: مدير المشاريع صاحب التجربة العميقة والمعارف الهائلة والعلم الكثير، جالس على الأرض، وجماعة المتدربين الجدد الذين لم يضمنوا حتى مقاعدهم داخل الشركة، مسترخون فوق الكراسي المريحة، ولم يشكل هذا حرجا للمدير.

وعودة إلى أيام الجامعة هنا بفرنسا، أتَعْلَم أنه أثناء الدرس، لما تقوم باستدعاء الأستاذ للمساعدة في أمر ما على حاسوبك، فإنه يأتي بجوارك ويجثو على ركبتيه أمام الحاسوب، فيشرح لك الأمور وأنت مستريح فوق كرسيك! وهل تعلم أن الأساتذة والطلبة في الجامعة يستعملون نفس المقصف للراحة والأكل بين الحصص، وقد يجتمعون هناك ويتبادلون الحوار فلا تكاد تفرق بين الأستاذ والطالب!

إن كثيرا من المغاربة هم شديدوا الكبر والعجرفة والإعجاب بالنفس، ويظنون أن هذا يكسبهم هيبتهم، فمن منا لا يعرف ابن حومته ذاك الذي لم ينل شهادة دراسية قط، ذاك الذي يقف كل يوم وقفته الاستعراضية أمام الثانويات أو في الحدائق، واضِعا نظارات شمسية تملأ وجهه، ويهب ويذب بين الناس كأنه عارض أزياء، يريد لفت الانتباه، ويتمنى أن تسقط في غرامه كل فتاة تراه، وهذا كل همه في الحياة، ومشروعه مصاحبة أكبر عدد من الفتيات حتى يشهد له العالم بالرجولة، وأية رجولة؟ أهذا من نعوّل عليه للتقدم أمام الفرنسيين؟

تواضعوا يا أهل الإسلام، فما هكذا أوصى رسولنا الكريم، حافظوا على بساطة العيش مهما أكرم الله عليكم من علم ومال ومنصب وشهادات تَفَوّق، واتركوا تلك العقلية المادية التي طغت على شبابنا. واعلموا أن من تواضع لله رفعه

إلياس الجعفري

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.