العنف المدرسي ، الشبح الذي يهدد تعليمنا ( جزء 1)

0 470

يكاد يُجمع الكل على ان فضاء المدرسة أو المؤسسات التربوية بشكل عام، هو الفضاء الاكثر مثالية من حيث طبيعة العمل الذي يزاوله الموظف بحكم الرسالة النبيلة التي يحملها من جهة ، ومن حيث القداسة التي يحظى بها هذا الموظف لدى السواد الاعظم من الامة من جهة ثانية ، حتى كان آباؤنا يحثوننا على التعلُّم وعدم التخلف عن الدرس لنصبح معلمين ” تُرجُمان ” ونتقاضى مالا كثيرا دون تعب بدني يذكر (حسب تصورهم )… وهي نفس القداسة التي أوحت لشاعر مصر ، أحمد شوقي ، بقصيدته المشهورة :

قـم للمعلم وفِّيه التبـجـيلا       كاد المعلم أن يكون رسولا

  غير ان هذه الصورة المثالية الناصعة ، وهذه القداسة الربانية ، تحولتا بفعل التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، الى صورة قاتمة ملطخة بالأحداث المأساوية التي نصبح عليها ونمسي عند كل إطلالة على المواقع الاخبارية الالكترونية أو تصفح للجرائد اليومية . تلكم الاحداث هي العنف المدرسي الذي لم يعد يستثني مدينة كبرى بتناقضاتها أو قرية صغرى بسكونها وتناغمها . ولا هو يستثني موظفا أفنى وردة عمره في تعليم رجال الغد ولا أستاذة هجرت أسرتها لتساهم في بناء صرح هذا الوطن …. فما هو العنف المدرسي وما أنواعه؟ وماهي أسبابه ؟ وماهي عواقبه وآثاره ؟ وكيف يمكن الحد منه ومحاصرته ؟

إن العنف بشكل عام وبتعريف مبسط ، وبعيدا عن التفصيلات الاكاديمية يعني ” كل سلوك أو فعل مـادي من طرف شخص ما يؤدي الى التأثير سلبيا على الطرف الثاني ” فيُفهم من هذا التعريف جميع السلوكات المستفِزة للطرف الآخر كالضحك أو الاستهزاء أو القيام بحركات أو ارتداء لباس مثير … ويفهم منه كذلك كل الافعال المثيرة لغيظ الآخر بما في ذلك طريقة المشي أو الكلام ناهيك عن الافعال المسببة في أضرار مادية كالضرب والجرح . فالعنصر المحدد لدرجة العنف هو ” درجة استفزاز الآخر ” ووضع الاصبع على جرحه المؤلم أو ما يسميه الغرب ” نقطة ضعفه ” . من هنا نستخلص أيضا تفاوت الاستجابة للعنف والتأثر به من شخص لآخر ، فما اراه انا عنفا قد يراه شخص آخر يؤدي نفس وظيفتي ( استاذ مثلا) ، سلوكا عاديا والعكس صحيح . وما أكثر المرات التي استوقفتنا فيها حالات ونحن نجري مداولات الأقسام ، فيقع حولها اختلاف كبير بين مجرِّم ومبرِّئ ليتبين في الأخير ان الاختلاف منشؤُه اختلافٌ في الطبائع والعادات والتقاليد والمثل العليا في الحياة …

إلا ان العنف يبقى عنفا سواء خفت حدته وخبت جذوته أو علا صوته وتطاير لهبُه ، لان النتائج المتوخاة لا يمــكن

حصدها في مثل هكذا ظروف . وفيما يلي جرد لأهم انواع العنف كما رصدتها طوال مشواري التعليمي كتلميذ ثم

كأستاذ وحارس عـــــــام :

1 – الـلامبالاة أثناء إنجاز الدرس : إن حرص الاستاذ على تفهيم واستيعاب التلاميذ للدرس يدفعه بقوة لتتبع حركاتهم وسكناتهم ، فلا يقبل بأي حال – وهو يقوم بعمله – أن يرى واحدا من تلامذته يقوم بحركات زائدة أو عمل آخر: ( كتابة ، فتح كتاب ،التفاتة ….) غير متابعة إنجاز الدرس ، وحيث ان التلميذ يمكن أن يشعر في بعض الاحيان بالملل من الدرس او غيره فهو يتصرف تصرفات يقرؤها الاستاذ ” لامبالاة ” واستخفافا بمادته فيحدث تشنج يكون بذرة لبداية العنف إن لم يتم تطويقه .

2 – التشويش على الآخرين : عندما يحس التلميذ ، أو أي شخص ، بأنه منبوذ (بسبب تصرفاته ) داخل الجماعة ، عادة ما يلجأ الى أفعال استفزازية لإثبات الذات ، أو على الاقل تعكير صفو الأجواء السائدة ، فيضرب الأرض برجله في غفلة من الأستاذ أو يقوم بإحداث أصوات غريبة تصعد من صدره أو باستعمال أدوات مدرسية ، وهذا يؤدي الى خلق تشويش على سير الدرس يشعر معه الاستاذ بحرج كبير بين ضبط الفاعل والاستمرار في الدرس بشكل سلس وبين ضبط أعصابه كأن شيئا لم يقع ، غير أن التمادي في الفعل عادة ما يفقد الانسان صوابَه وأعصابه فيتحول القسم كله الى متهم فينشأ العنف المضاد لاحتواء الموقف .

3 –التمظهر بمظهر غير لائق : يمكن وصف هذا العصر بعصر المظاهر والموضة المتبدلة سنة بعد أخرى سواء في اللباس أو في نوع حلاقة الشعر ، هذه الموضة رغم أنها في جانب من جوانبها تعبر عن الحرية الفردية ، غير أنها في كثير من الأحيان تأخذ شكلا مُقْـرفا ، مخلا بالذوق العام ، مستفزة لمشاعر الآخرين كبعض الملابس الضيقة الواصفة التي يضعها بعض الشبان والشابات أو بعض الحلاقات المثيرة والتي لا نراها إلا عند أداء بعض المسرحيات الهزلية . كل هذا يخلق نوعا من الاستفزاز لدى الآخر لا يقل عنفا عن العنف المادي .

4 – الحرمان من الحصة : كثيرا ما يلجأ الاستاذ/ المربي الى الحلول السريعة كلما أحس بـ “لا انضباط ” بعض المتعلمين أو تهاونهم في إنجاز الواجبات المنزلية ، وهي إخراجهم من الفصل ، والقذف بهم الى المجهول ، هذا الحل يريح الاستاذ ويهدئ من روعه للحظة معينة ، غير أنه يسطر جرحا عميقا في نفسية ذلك المتعلم ، فالإخراج والطرد يتم تأويله لا شعوريا بالطرد من “رحمة” الاستاذ مما يؤدي الى القنوط والقلق و الإحباط وفقدان الثقة في النفس وفي الآخرين وبالتالي الانحراف إذا لم يتم تدارك الموقف .

5 – الحرمان من النقطة المستحقة (الشطط في استعمال السلطة ): وهو عنف معنوي يلجأ اليه أحد الأطراف لمعاقبة طرف آخر ، حيث يشعر المعاقَب أن مصيره بيد المعاقِب ، فإما أن ينصاع ويخضع كالعبيد فيحقق مآربه وإما أن يتمرد وينتفض فيكون سوء المصير . والنتيجة في كلتا الحالتين هي الشعور بالقيود تكبل كل رغبة في الانطلاق والحرية مما يؤدي الى أزمة داخلية وسلسلة من العقد النفسية .

6 – الاهانة بأنواعها : مثل السخرية أو الضحك أو حتى النصيحة أمام الأقران تصبح إهانة  قاسية الوطأة ، وقد قيل قديما ” النصيحة أمام الملإ فضيحة “،  فلا ينبغي أن نستهين أو نحتقر بعض الألفاظ التي نستعملها في خطاباتنا مع الآخرين ، فالمشاعر قسمة عادلة بين الانسان صغيرا كان أم كبيرا ، وإن اختلفت درجة التأثر من مرحلة عمرية لأخرى ، فالطفل يحس بالإهانة ولكن ردود فعله حيالها لا تطول وطأتها بينما المراهق يكون سريع التأثر وقد تتخزن أدنى إهانة في لا شعوره الى الابد ، وتترجم الى ردود أفعال عنيفة بين الحين والاخر .

7- السب والشتم : وهي أقسى أنواع الاهانة سواء كانت بألفاظ “متداولة” أو بألفاظ بذيئة ، وهي من العنف اللفظي المرتبط تاريخيا ببعض الفضاءات و الادارات كمخافر الشرطة والدرك ، حتى غدا ذكرها مقترنا بالعذاب والتسلط على الآخر الى حد سلب كرامته . غير أن هذه السلوكات اقتحمت المؤسسات التعليمية خاصة المستويات الابتدائية والاعدادية ، فأضحى التلميذ هدفا ومَطرحا لكل أنواع السب والشتم التي يضمها قاموس الاستاذ .

8 – القذف / الضرب بمواد صلبة : حينما يبلغ العنف اللفظي ذروته أو يصل الاستفزاز الى حد لا يطاق ، يتحول الى عنف مادي يأخذ أشكالا متعددة  كالضرب بمادة صلبة كالعصا أو أي وسيلة تعليمية تفي بالغرض (ممسحة مسطرة ..) ، وقد تستعمل الطباشير و الاقلام لرشق الأستاذ أثناء قيامه بالكتابة على السبورة ، هذا الأسلوب يتم رصده بشكل لافت في المستويات التأهيلية والسنة الاخيرة من التعليم الثانوي الإعدادي حيث يبدأ التلميذ / المراهق في الدفاع عن نفسه بشتى الطرق …

(يتبع…)

ذ. عبد الكريم أيت علي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.