ذكاء بنكيران و دهاء بنعبد الله

0 445
وجهان غزاهما الشيب و زادهما وقارا. الأول بلحية بيضاء غير كثة تعكس توجهه الإسلامي المعتدل، صريح و مواجه، لا يدقق كثيرا في اختيار كلماته التي تجد طريقها سالكا إلى قلوب البسطاء و المحافظين.
الثاني رجل تقدمي أنيق لبق بشارب مشرقي يعكس دراسته العليا بالمعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية بباريس و التي توَجها بشهادة مكنته من الاشتغال كترجمان محلف لدى المحاكم المغربية.
كان سهلا قبل سنوات تخمين أن الرجلين قادمان بقوة و أنهما سيشكلان رقما صعبا في المعادلة السياسية المغربية لكن لم يخطر ببال أنجب المحلَلين السياسيَين أن تناقض سياستي حزبيهما لن يشكل عائقا أمام تحالف متين لاحق.
لفهم علاقة الرجلين الحالية ينبغي العودة إلى الوراء سنوات قليلة، و بالضبط إلى فترة بداية التسعينات.
ميلاد أول حزب سياسي إسلامي بالمغرب
حين استعصى عليهم تأسيس حزب سياسي، لم يكن من سبيل أمام بنكيران و إخوان دربه في الشبيبة الإسلامية سوى الارتماء في أحضان حزب محافظ يبحث له عن موطئ قدم في الخارطة السياسية المغربية.
مخاطبهم لم يكن سوى الدكتور الراحل عبد الكريم الخطيب المنشق عن حزب الحركة الشعبية و مؤسس «الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية».  بعد مشاورات عديدة، سيحظى الإسلاميين بترحيب الخطيب لكن شريطة نبذ العنف و التمسك بالملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين.
ست سنوات بعد ذلك، و تحديدا سنة 1998 ستخلص الدورة العادية للمجلس الوطني إلى ضرورة تغيير اسم الحزب. سيستقر الرأي على مسمى “العدالة و التنمية” استلهاما من الشعار الذي تم رفعه خلال الانتخابات التي سبقت انعقاد المجلس الوطني “من أجل نهضة شاملة: أصالة, عدالة, تنمية”.

عادل متقي

كان طبيعيا إذن أن يشكل انعقاد الدورة العادية فرصة لصعود وجوه جديدة إلى سدة الحزب. كان على رأس هذه الوجوه رجل هادئ رزين يتجنب المواجهة و يواجه الانتقادات ببرودة تامة تثير الخصوم و المقربين على حد سواء.

مع مرور الوقت، تبين صواب الاختيار فشخصية العثماني مناسبة تماما للظرفية السياسية آنذاك بعد أن نجح الأمين العام برزانته و هدوئه المفرطين نجاحا مبهرا في صد كل الضربات و تجنيب الحزب خطر الحل بعد تفجيرات الدار البيضاء الإرهابية.
أخذ الحزب في تعزيز مكانته و اكتساب شعبية متزايدة و هو ما زاد من طموح قادة الحزب. بدا أن ورقة العثماني آخذة في الاحتراق بعد أن أدت مهمتها على أحسن وجه فهدوءه المفرط لا يليق و الهدف الجديد الذي رسمه الحزب في تزعم المشهد السياسي الوطني.
كانت اللحظة مناسبة لبنكيران فجرأته و قدرته على الهجوم جلبتا له تعاطف المناصرين و حملتاه على رأس الحزب.
استغل كل المناسبات لفتح النار على الخصوم تاركا المجال لفصاحته و عفويته علي حد سواء. كانت عبارات الهجوم و الانتقاد تتدفق دون هوادة ما جلب للحزب حب و تعاطف الناقمين على تردي الأوضاع الاجتماعية و شيوع الفساد في دواليب الإدارة.
نجح إلى أبعد الحدود في مهمته لكن ظلت أمامه مهمة أكثر صعوبة. كان عليه أن يجلب رضا النافذين السياسيين الذين كانوا يرون في صعود نجومية الحزب تهديدا للتوازن السياسي خاصة في ظل تحفظ القوى الخارجية.  مأماأنأما
امتناع الحزب عن المشاركة في احتجاجات الربيع العربي و كذا نجاح تجربة العدالة و التنمية التركي سيمنحان الحزب ثقة الدولة التي ستلتزم بالمقابل بضمان نزاهة الانتخابات التشريعية.
نباهة سياسية
كانت بداية نبيل بنعبد الله السياسية مع الشبيبة الاشتراكية عام 1994 ما مكنه وقتها من ولوج المكتب السياسي لحزب التقدم و الاشتراكية سنة بعد ذلك.
نباهة بنعبد الله السياسية مكنته من استغلال مشاركة حزبه في حكومة التوافق برئاسة إدريس جطو للظفر بمنصب وزير الاتصال الناطق الرسمي للحكومة لخمس سنوات كاملة.
سنة 2009 سيشغل منصب سفير بإيطاليا لكن سرعان ما سيتم إعفاؤه من المنصب بعد شجار زوجته مع زوجة الفاسي الفهري وزير الخارجية آنذاك. شجار كان فأل خير عليه، ذلك أنه مباشرة بعد عودته إلى الرباط سيتم انتخابه كأمين عام لحزب التقدم و الاشتراكية.
في أعقاب الحراك العربي
الانتخابات التشريعية لسنة 2011 ستكون بمثابة تحد كبير للحزبين، خاصة و أنها حلَت في أعقاب الحراك الذي شهدته عدد من دول المنطقة. تحد خرج منه حزب العدالة و التنمية كأكبر الفائزين بعدما حاز أكثر من ربع مقاعد الغرفة الأولى من البرلمان.
منح بنكيران فرصة تاريخية لحزبه بعد أن وضعه على رأس الأحزاب لكن كان عليه الانتظار فالدستور الجديد يمنح لعاهل البلاد اختيار شخص من الحزب الحاكم لتشكيل الحكومة.
وضع قلبه على يده متوجسا مترقبا لكنه سرعان ما أدرك أن توجسه لم يكن في محله بعدما تم استدعاؤه للقصر لاختيار فريقه الحكومي.
زاد توتره فالمسؤولية جسيمة. اهتدى إلى ضرورة الاجتماع  بكبار الزعماء السياسيين. فتح باب التحالف أمام الأحزاب جميعها باستثناء حزب الاصالة و المعاصرة. لم يرسم سقفا لمطالبه، ترك كل شيء للتفاوض. زار بداية بيت الخطيب عرفانا بالجميل ثم جلس مستشيرا الزعماء السياسيين للأحزاب، أنصت إلى توجيهاتهم و تقبَل انتقاداتهم.
كان مهمته صعبة للغاية، فتصريحات أكثر الأحزاب كانت معادية إلى حد بعيد. أولى التصريحات جاءت من كريم غلاب الذي انتقص من نجاح العدالة و التنمية و اتهم الحزب باستغلال الدين. على نفس النسق ذهبت تصريحات عديد أحزاب خاصة حزبا التجمع الوطني للأحرار و الإتحاد الاشتراكي.
اعتبر قياديو الاتحاد الاشتراكي أن دخول حكومة الإسلاميين بمثابة تقوية لشوكتهم و إنجاح لتجربتهم لذا دعوا حلفائهم في الكتلة إلى رفض المشاركة في الحكومة مفضلين إعادة ترتيب أوراقهم في المعارضة.
كان من المستبعد أيضا لدى المحللين مشاركة حزب التقدم و الاشتراكية في الحكومة بعد العداوة التي ميزت علاقة الحزبين إثر وقوف العدالة و التنمية ضد عدد من بنود مدونة المرأة التي صاغها آنذاك عضو المكتب السياسي لحزب التقدم و الاشتراكية سعيد السعدي و دعوة التقدم الاشتراكية بالمقابل ، بإيعاز من حزب الإتحاد الاشتراكي، إلى حلَ حزب العدالة و التنمية عقب أحداث الدار البيضاء.
لم يلق محمد نبيل بنعبد الله بالا لخصومة الماضي. أدرك بذكائه أن مشاركة حزبه و نجاح الحكومة سينعكس بالإيجاب على مكانة حزبه مستقبلا.
مارس بداية كل دبلوماسيته في احتواء جناح الممانعين داخل حزبه ليتمكن بعد ذلك بكثير من الدهاء السياسي التحصل على أربعة وزارات مهمة و هو بمثابة انتصار سياسي بالنظر لموقع و مقاعد الحزب داخل البرلمان.
نجح فيما بعد في ترسيخ صورة الحزب التقدمي الذي يضم في صفوفه أعضاء متدينين بعدما ترأس الوفد المغربي الى الديار المقدسة.
تحالف إيجابي
مع مرور الوقت اتضحت جليَا رجاحة الرجلين بعدما انعكس تحالفهما بالإيجاب على حزبيهما لاسيما بعد أن كرَر حزب العدالة و التنمية هيمنته على النتائج التشريعية الجزئية كما استطاع حزب التقدم استعادة مقعده البرلماني و بالتالي تجنب خطر فقدان فريقه البرلماني.
نجاح تحالف الحزبين أثبت بالملموس أن كل المصالح الحزبية الضيقة تذوب في سبيل خدمة الوطن…

بالتوفيق لكل من يحب هذا الوطن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.