حكم الردة سياسي وليس ديني

0 313

دين الإسلام هو إخلاص الإيمان والطاعة لله تعالى وحده، والسلام مع الناس، وبهذا المعنى جاء الإسلام بكل اللغات التى تحدث بها الأنبياء السابقون قبل محمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام، ثم نزل باللغة العربية فى القرآن الكريم خاتم الرسالات السماوية، هذا هو ما يخص دين الله تعالى.
 

حساين المامون - أستاذ باحث
حساين المامون – أستاذ باحث

أما ما يخص التدين، أو موقف الناس من دين الله تعالى، فهو أمر آخر، فالتدين صناعة بشرية تحمل ملامح البشر وضعفهم وطموحهم وغرائزهم وفضائلهم وسيئاتهم وحسناتهم. ولكن العامل الأساسى فى التدين- حسبما يظهر فى التاريخ الدينى، هو السياسة، ومؤسساتها الدينية التى تقوم بإخضاع التدين لرغبات الحاكم، أو المؤسسات الدينية البديلة الطامعة فى الحكم التى تسوغ الخروج على الحاكم، ومن هنا يعج التراث بالتناقضات التى تعبر عن الحاكم والمحكوم، والثائر والحاكم الطاغى، أو كما قال تعالى عن التراث الدينى المخالف للقرآن الكريم والذى يجد فيه المعرضون عن القرآن ما يتخيرون من الأحكام المتناقضة ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ. إِنّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيّرُونَ﴾ (القلم 37، 38) وهذه هى المشكلة فى التناقض بين الدين والتدين.
الدين هو الحق الإلهى، والتدين هو التراث الدينى الذى كتبه البشر وفيه حسناتهم وسيئاتهم.
وقبل نزول القرآن طغى التدين على الدين، إذ أوكل تعالى للبشر حفظ الدين، فكان أن حرفوا الرسالات السماوية فيما استحفظهم الله تعالى عليه، ثم أنزل الله تعالى القرآن محفوظاً بقدرته جل وعلا يقول تعالى: ﴿إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر 9) ﴿وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت41، 42) ولذلك كان القرآن حكماً ومهيمناً على الكتب السماوية السابقة التى قام تدين أصحابها بالتحريف فيها، يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ (المائدة 48). وتلك هى وظيفة القرآن وخاتم النبيين بالنسبة لأهل الكتاب، وذلك معنى قوله تعالى له: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ، بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل 43، 44)، وتكرر ذلك فى قوله تعالى فى نفس السورة: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (النحل 63، 64). أى كانت وظيفة القرآن هى إصلاح ما أحدثه أهل الكتب السماوية السابقة من تحريفات أدت إلى مشاكل.
 وبعد أن تم القرآن الكريم نزولاً مات النبى عليه الصلاة والسلام، ونفذ المسلمون أوامره بالاكتفاء بالقرآن وحده، وعدم كتابة وتدوين غير القرآن، مع كتابة القرآن بالرسم المعجز الموحى به إليه، ولذلك أحرق عثمان فى خلافته المصاحف التى كتبت بخلاف ذلك الرسم القرآنى الرسولى، فسمى ذلك الرسم بالرسم العثمانى نظراً للجدل الذى صاحب ذلك وقته، وهو نفس الرسم والشكل الذى تختلف به كتابة المصحف حتى فى عصرنا عن الكتابة العربية الأخرى، وتلك إحدى وجوه الإعجاز الإلهى فى حفظ القرآن إلى أن تقوم الساعة.

 ولكن دخول المسلمون فى السياسة ودروبها ومشاكلها وأزماتها وحروبها وضغائنها وانقساماتها منذ بيعة السقيفة إلى الملك الوراثى الأموى العضوض إلى إسالة الدماء أنهاراً فى صراعات سياسية بدأت من اغتيال عمر وعثمان وعلى ولم تنته بكربلاء وموقعة الحرة والنهروان ودير الجماجم.. هنا اصبحت  الجريمة تتحصن بتسويغ شرعى فقد تحولت إلى شرف وفريضة دينية. ومن هنا فإن قتل المسلم المخالف فى المذهب الدينة أو السياسى هو فى تشريع القرآن جريمة. إلا أنه يتحول إلى واجب دينى فى شريعة التدين.. وهذا هو التناقض بين القرآن والتراث، أو بين الدين السامى وتدين المسلمين، أو بين الإسلام والمسلمين.
إن المسلمين حين جرفتهم السياسة باعدت بينهم وبين القرآن، وبدلاً من الاحتكام إلى القرآن والرجوع إليه فعلوا العكس، وهو صناعة تشريع بشرى يقوم على عمودين، الأول هو إلغاء الأحكام القرآنية التى لا تتفق مع أهوائهم، والثانى، هو اختراع أحاديث تسوغ لهم ما يشاءون من تشريعات تخالف القرآن، مثل حد الردة وحد الرجم، وتوسعوا فى تلك الأحاديث لتلبى الطلب عليها فى الأهواء العقيدية الخرافية المخالفة للقرآن لدى الشيعة والسنة والصوفية وغيرهم، ولتلبى الخلافات الأصولية بين السنة والشيعة وباقى الطوائف والفرق الإسلامية، والخلافات المذهبية فى داخل الفقه الشيعة والفقه السنى.. وبذلك أصبح الحديث وأقاويل المسلمين عن القرآن أو ما يعرف بالتفسير هو الديوان الحى الذى يجسد الواقع العملى لتدين المسلمين فى كل عصر.. هذا من ناحية الاتساع والنظرة الأفقية وأما من الناحية الرأسية فقد حرصوا على نسبة الآراء إلى النبى عليه الصلاة والسلام وكبار الصحابة لدى أهل السنة، أو لدى النبى صلى الله عليه وسلم وعلى وبنيه لدى الشيعة، أو إلى من جعلوهم أولياء مقدسين يتمتعون بالعلم اللدنى المأخوذ من الله تعالى رأساً، عند الصوفية.
وفى عصور الفتن التى شهدت التدوين- تمت ولادة حد الردة تعبيراً عن ظروف سياسة استلزمت سفك الدماء، ولأن شرع القرآن لا يجيز قتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، لأنه لا يوجد مبرر فى القرآن لقتل النفس خارج الحق القرآنى وهو القصاص فى القتل، فإن فقهاء الدم ابتدعوا حد الردة ووضعوا له حديثين تستطيع بهما الخلافة الاستبدادية مطاردة خصومها السياسيين بغطاء شرعى مزيف.
والتيار الدينى السياسى المعاصر ينهمك فى المطالبة بتطبيق الشريعة وليس لديه وقت وليست له الدوافع أيضاً لكى يتساءل عن ماهية الشريعة المراد تطبيقها، هل هى شريعة القرآن أم شريعة الفقهاء فى العصر العباسى. والتيار الدينى السياسى المعاصر يستريح أكثر لشريعة الفقهاء العباسيين لأنها تعطيه السلاح البتار فى مواجهة خصومه السياسيين ونقصد به حد الردة، لذلك يكون سهلاً على رموز التيار الدينى السياسى أن يرفعوا سلاح التكفير وسلاح الردة لإرهاب خصومهم السياسيين، فإذا طالبوهم ببرنامج سياسى عملى لترجمة شعار (الإسلام هو الحل) ومبدأ (الحاكمية الإلهية) فإن التيار الدينى يرد عليهم بالتكفير ويرهبهم بحد الردة..
وانتقلت تلك الفتوى الدامية إلى الرأى العام عبر أجهزة الإعلام، وهللت لها صحف التيار الدينى السياسى، وهلل لها أعوانهم فى الصحف القومية، وثار جدل سياسى وفكرى حول حد الردة ما بين مؤيد ومعارض، وتكشف للرأى العام من خلال مقالاتى أنه لا يوجد فى القرآن الكريم ما يؤيد حد الردة، وأنه يقوم على حديثى آحاد تفيد الظن ولا تفيد اليقين.. وتبين للرأى العام أن الرسول لم يقتل أحداً من المنافقين وهم الذين نزل القرآن يحكم بكفرهم. ولو كان هناك حداً للردة لطبقه الرسول..
وكاتب هذه السطور ينتمى للتيار الأصولى، ولكنه مع الأصول الحقة، وهو ينادى بأن الإسلام يحتاج الآن إلى من يعانى فى سبيل إظهار حقائقه، وليس محتاجاً لأولئك الذين يتاجرون باسمه العظيم فى دنيا السياسة والمطامع الدنيوية، وحقيق بكل من يحب الله ورسوله ودين الإسلام أن يبرئ الإسلام من الأوزار التى التصقت به فى عصور الاستبداد، ومنها على سبيل المثال “حد الردة”.
إن ما يعرف بحد الردة يقوم على حديثين فقط، ورد أحدهما فى البخارى وهو الذى يدعو إلى قتل من بدل دينه، وورد الآخر فى صحيح مسلم وهو الذى يقول أنه لا يحل دم المسلم إلا بثلاث: قتل النفس والثيب الزانى والتارك لدينه المفارق للجماعة؟
ولأن الاسلام قد ابتُلى ببعض رجاله فأساؤا اليه أكثر من غيرهم وذاك لأفة عقلية او رؤية ظلامية او لغياب النظرة التحليلية المنطقية عندهم فُشرعوا حدا جديدا لم يأت به الاسلام ، وهو حد الردة ، لذا رأينا أن نفند كل ماذكر عند البعض، بأسلوب علمى قائم على الحجة والمنطق ، فبالبحث فى القرأن الكريم لم نجد اى دليل على حد الردة ( اى قتل المرتد عن الاسلام ) بل وجدنا كل ما جاء به القراَن هو محاسبة ومعاقبة المرتد من قِبل الله فى الاخرة ، كما ورد بسورة البقرة 217 قوله تعالى ( ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاؤلئك حبطت اعمالهم فى الدنيا والاخرة واولئك اصحاب النار هم فيها خالدون ) هذا بالاضافة للاٌيات التى ترفض قطعا ً وصراحةً الاكراه فى الدين مثل قوله تعالى فى سورة المائدة 54 (لا اكراه فى الدين ) وايضا حرية العبادة والاعتقاد الواضحة فى قوله تعالى فى سورة الكهف الاية 29 ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )،و نجد من استند بفرض حد الردة الى حديثين شهيرين نسبا للرسول صلى الله عليه وسلم ، الاول قول الرسول (ص) (من بدل دينه فأقتلوه) وقد رواه البخارى ،أما الثانى  قول الرسول (ص) ( لايحل دم امرىء مسلم يشهد ان لا الله الا الله وانى محمد رسول الله الا بأحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزانى والتارك لدينه المفارق للجماعة ) وقد رواه البخارى ومسلم، وقد نبه العديد من المجتهدين والعلماء الى الا ان هادين الحديثين غير متواترين اى منقطعي السند الناقل عن الرسول (ص) اى غير صحيحين ولا وجوب للأخذ بهما ، مما يعنى انه لايصح ان نجعلهما دليلين على فرض حد الردة الذى يزهق الروح.
وقد استند الفريق الراغب فى فرض حد الردة الى ما ذكر فى بعض كتب السير الاسلامية ، عن قيام ابو بكر رضي الله عنه بمحاربة المرتدين بداية توليه الخلافة ، لكن  هذا الباس  الحق بالباطل فأبو بكر لم يقاتل المرتدين عن الاسلام ، بل المرتدين عن دفع زكاة المال لبيت المال وكانوا على اسلامهم ، واصدق دليل على ذلك قصة مالك ابن نويره الذى قبَضَ عليه جنود خالد ابن الوليد على اعتبار انه مرتد ، فذكر الجنود لخالد انهم وجدوا مالك يصلى صلاة الاسلام لحظة القبض عليه ومع ذلك اٌمر بقتله لأنه ارتد عن مبايعة ابو بكر، اما الدليل الاكبر على ما نقول هو قول عمر لأبى بكر :” كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله اُمرت ان اقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله فمن قال لا اله الا الله فقد عصم منى نفسه وماله الا بحقه وحسابه على الله ، فقال ابو بكر :” والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فان الزكاة حق المال ، والله لو منعونى عناقا  لقاتلتهم على منعهم ، وكان هذا الحوار بخصوص ما يدعونه حروب المرتدين مع ان الامر واضح لا لبس فيه .
كما أن المنطق العقلى يرفض تماما فكرة القتل فى وجود الحساب ويوم القيامة ، ولان القتل يمنع فرصة قد تكون للمرتد ، ان يعود ويتوب ويكون افضل مما سبق ، اضافة  ان العقيدة معناها الاعتقاد اى الاقتناع فهل الاقتناع يكون بالقوة والجبر ام الاقناع والاختيار، والعقل يقول ايضا ان العقيدة لا يعلمها الا الله ، فقد يذكر الانسان الاسلام بلسانه وقلبه مطمئن بعقيدة اخرى ، فهل مثل هذا المنافق ما يريده الله؟ وهل النظرة ألاهية تكون بهذا الشكل السطحى حاشا لله .

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.