رمضان..شهر الإجتهاد و تجديد العهد مع الله تعالى

0 371

إن أعظم ما في شهر رمضان هو إقتران العبادات فيه بالأعمال، و هما يجتمعان في القيمة الروحية و التعبدية و الممارسة الإيمانية الخالصة التي لا يجزي عليها إلا الله وحده. فالعمل لغة أهل القرآن و هو جزء من الإيمان، فلا نجد آية فيها عمل إلا و يتبعها أو يوافقها مفهوم الإيمان بالله كقوله تعالى : “َبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ” (البقرة: 25).

فأعظم ما إقترن به شهر رمضان المبارك بأن القرآن الكريم نزل فيه، قال تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَ الْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، و المقصود بالنزول هنا هو نزوله الأول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا و ذلك كان في ليلة واحدة، قال تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]؛ و هي ليلة القدر، قال تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، و تحدّث المولى عزّ و جلّ في كتابه عن عظمة القرآن الكريم، و من خلال آياته الحكيمة نبيّن هذه العظمة من خلال مقالين متتاليين (علي الصلابي، الإيمان بالقرآن الكريم).

فقراءة القرآن هي التجارة الرابحة، و ذلك في جميع الدُّهور، و على مدى الأيام و الشهور؛ لكنَّ لها في رمضان شأنًا أعظم و آكد؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه و سلم كانت تزيد عنايته بالقرآن في رمضان (سلمان العودة، مجالس رمضانية).

و قد منّ الله على المسلمين بتفضيل بعض الأوقات على غيرها و بدعوتهم فيها للتقرّب منه و التزلّف إليه، تهذيباً لنفوسهم، و تطهيرا لقلوبهم؛ فيبقى العبد طاهرَ القلب نقيَّ النفس، فينال أعظم غاية؛ رضى الله و الفوز بمحبته، كما جاء عن عبد الله بن عمرو، قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم: أي الناس أفضل؟ قال : «كل مخموم القلب، صدوق اللسان»، قالوا : صدوق اللسان، نعرفه، فما مخموم القلب ؟ قال : «هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غلّ، ولا حسد» [أخرجه ابن ماجه، (2/1409)، وإسناده صحيح].

في الصيـام حكم و فوائد كثيرة، مدارها على التقوى، فالصيام يؤدي إلى قهر الشـيطان، وكـسر الشهوة، وحفظ الجوارح، ويربي الإرادة على اجتناب الهوى، وفيه كذلك اعتياد النظام، ودقة المواعيد (المنجد، سبعون مسألة في الصيام، ص: 7). ولهذه الغاية العظمى جعل الله في كل وقت فرصةَ زيادة تقرب من عباده إليه، فآخر الليل هو خير اليوم، ويوم الجمعة خير أيام الأسبوع، وفي السنة جعل شهر رمضان خير الشهور؛ فمن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وفي العمر كله حج بيته، فمن حج فلم يرفث ولم يفسق عاد كيوم ولدته أمه، وفي رمضان جعل خيره آخره، وجعل فيه خير الليالي على الإطلاق وهي ليلة القدر، وتأكيدا على قدْر تزكية النفوس في العبادات التي شرعها الله تعالى، نرى أنّ الله سبحانه جعل الغاية الكبرى من الصيام: التقوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]؛ “وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم، إنها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله وإيثارا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفا وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام” (قطب، سيد، في ظلال القرآن، 1/194).

إنّ الذي يلتزم بالصيام ويعمل بمقاصده وغاياته، تتهذّب وتتجمل أخلاقه ويحسن سلوكه، وكذلك المجتمع تتغير منظومة أخلاقه من السيئ إلى الحسن، وبالتالي تتحقق الغاية المرجوة (التقوى)، والمتأمل في فريضة الصوم يجد أنها ذات صلة كبيرة بكل القيم والأخلاق الجميلة والحسنة، كالإيثار، والإنصاف، والتسامح، وحسن الظن، والحلم والحياء والرضا.. فلا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن نستغني عن هذه الأخلاق ما دمنا نصوم لله تعالى امتثالاً لأمره وتأسيا واقتداء برسوله ﷺ، بل إن الصيام فرضه الله ليرسخ هذه الأخلاق في نفوس الصائمين ويحولها فيما بعد إلى سلوك ممارس في حياتنا وعلاقتنا، فلا قيمة لصوم دون خلق الحياء والإيثار والإنصاف والتسامح والرضا.. (العطار، حسني، الصيام وتهذيب النفس، ص: 10).

لم تكن في لحظة غاية الصيام تجويع الصائمين وحرمانهم مما أباح الله لهم بمعزل عن القيم النفسية والروحية والاجتماعية، بل إن تهذيب الإنسان عقله وخلقه وسلوكه ونظرته للحياة هو المقدم على كل المقاصد والغايات، من هنا حق لنا أن نقول إن فريضة الصوم من أعظم فرائض الدين وعبادته، وعلى مستوى كل الشرائع؛ الإسلام وما سبقه. نحن بحاجة لصوم لا نجوع فيه ونعطش فقط وإنما نحن بحاجة لصوم نهذب به أخلاقنا، فلا يغش ويسرق البائعُ الناسَ، ولا يخون السياسي شعبه، ولا يتطاول المسؤول على من هم دونه من الناس، ولا يخون من حمل أمانة ما، ولا يقصر موظف في أداء وظيفته وعمله. نحن بحاجة إلى صوم يهذب أخلاقنا: الأخ مع أخيه، والجار مع جاره، والزوج من زوجته، والكبير مع الصغير، والغني مع الفقير، وأن نرحم اليتيم والأرملة وذوي الحاجة، وهنا نكون قد حققنا غاية ومقصد الصوم الذي فرضه الله علينا ودعانا إليه محمد صلى الله عليه وسلم. (العطار، حسني، الصيام وتهذيب النفس، ص: 12).

و لو إستفضنا في الحديث عن الشهر المبارك لما وسعنا مجلدات عنه، و في خاتمة هذا الحديث نسأل الله أن يُعيننا في هذا الشهر على الصيام و القيام، و أن يفقهنا معانيه و أسراره، و أن يجعله شهر ارتقاء و تغيير للأفضل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.