بنية الخطاب الديني:التواصل والحجاج أنموذجا(ح2)

0 950

وبهذا الفهم،فالأفعال التخاطبية التداولية بين الأطراف التواصلية(المرسل”المركز عليه من طرف الاتجاهين الرومانسي والماركسي-الرسالة”أو القناة”المهتم بها من قبل الاتجاه البنيوي خاصة مع “دي سوسير” و”جاكوبسون”-المرسل إليه”المبئر عليه من قبل  نظرية جمالية التلقي الألمانية خاصة مع “ايزر”و”ياوس”-السياق أو المرجع من منظور رومان جاكبسون)تستدعي-مع التداولية استحضار مختلف هذه العناصر-والنشاط اللغوي في مستوييه التقريري والإيحائي بلغة رولان بارت،مما يعقد فعل التواصل البشري الذي تتداخل في تحديد ملامحه عدة حقول معرفية من قبيل:الفلسفة،المنطق ،علم النفس،علم الاجتماع،وقانون السنن اللغوي-عبر تحويل الرسالة المدركة والمحسوسة إلى نظام من العلامات أو سنن متفق عليه تنظيميا وتصنيفيا-باعتباره معطى مشتركا متداولا وإلزاميا لتحقيق السيرورة التواصلية بين الباث والمتلقي لاسيما وأن الوظيفة التواصلية”تتعلق بالبعد الاجتماعي للمتخاطبين، وفيها يتم تحديد زاوية المتكلم، ووضعه وأحكامه وتشفيره لدور علاقته في المقام، وحوافز قوله لشيء ما في علاقته مع مخاطبه.”(بشير ايرير،من لسانيات الجملة إلى علم النص،مجلة التواصل ع14،2005ص:87)،ف”كلما كان تقاسم المعلومات كان ذلك شرطا ضروريا لحدوث التواصل.”(عبد السلام عشير،عندما نتواصل نغير”مقاربة تداولية معرفية لآليات التواصل والحجاج،إفريقيا الشرق المغرب،2006،ص:55)،مما جعل التواصل -في منظور بول قراديس  و دايفيد لويس-إنتاجا وتأويلا للمعطيات بوصفه فعلا إجرائيا بين  طرفي الفعل التواصلي أثناء معالجة المعلومة،فاعتبر منوالا استدلاليا دالا ومفيدا قادرا على تحقيق نجاعة الملفوظ وفعاليته.                                                         

إن استحضارنا للتداولية يعود أساسا لمدى قدرتها على دراسة(علاقة النشاط اللغوي بمستعمليه،وطرق وكيفيات استعمال العلامات اللغوية بنجاح،والسياقات والطبقات المقامية المختلفة التي ينجز ضمنها الخطاب،والبحث عن العوامل التي تجعل من الخطاب رسالة تواصلية”واضحة”و”ناجحة”)(مسعود صحراوي:الأفعال الكلامية عند الأصوليين،دراسة في ضوء اللسانيات التداولية،مجلة اللغة العربية ع10،2004،ص:181).ولأن التواصل عبر اللسان من أرقى أنواع التواصل من خلال تخاطب الأفراد والجماعات والأطروحات والعقائد بهدف الإقناع والاقتناع،فان الحجاج،من هذه الزاوية الافهامية الابلاغية الاقناعية،يتوخى بناء موقف جديد أو تغييره،يستمد راهنيته ومشروعيته ومصداقيته،إذ لا تواصل باللسان من غير حجاج ولا حجاج من غير تواصل.(اللسان والميزان أو التكوثر العقلي،المركز الثقافي العربي، المغرب،ط1،1998،ص:213).وبذلك،يستدعي الخطاب الحجاجي قصدين حواريين هما:قصد الادعاء المرتبط بالمرسل المفترض فيه إقامة الدليل والبرهان على ادعاءه،وقصد الاعتراض المتعلق بالمرسل إليه المنوط به تفنيد ودحض أدلة وحجج خصمه ببراهين مناقضة وصارمة،وإلا رضخ الطرف الثاني وسلم بحجية الطرف الأول واعتبر غير فعال في صناعة تواصل منتج،وغير مشارك في مدار الكلام.(طه عبد الرحمن،اللسان والميزان ،م س،ص:225- 226).وعليه،ينفرد الفهم العربي الإسلامي للحجاج-بخلاف الفهم الغربي الذي يعتبر المستمع  كائنا سلبيا- كونه يرتقى بمرتبة المستمع إلى مرتبة المتكلم،إذ يصبح المستمع متكلما أو العكس -بفهم بنفنيست-بما يجعلهما عنصرين فاعلين متفاعلين-لا مفعولا بهما أو بأحدها على الأقل- في العملية التخاطبية التواصلية الحجاجية،علما ألا اعتراض دون فهم وتمحيص واستيعاب.

وهذا التأسيس النظري للنشاط التداولي للفعل اللغوي يجرنا للحديث عن أشكال حضور الخطاب التواصلي في القرآن الكريم على اعتبار عراقة وتخوم النشاط التواصلي بين الذات الإلهية والكائن البشري من خلال آدم-عليه السلام-في الملأ الأعلى وفي عالم الغيب والملكوت،وعبره المخلوقات الملائكية النورانية قبل تحققه الفعلي في العالم الأرضي بين بني البشر،وغيرهم من المخلوقات والكائنات ،مما يدل لمن كان في حاجة إلى دليل مدى ريادة وأسبقية نص الخطاب الديني-القرآني والحديثي في مسألة مقاربة العملية التواصلية بكل أيقوناتها ومكوناتها ودلالاتها-،مصداقا لقوله تعالى:” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ “(سورة البقرة: الآية 30)، علما أن سؤال الملائكة في هذا المقام لم يكن سؤال اعتراض بل سؤال استفهام  أو استعلام واستكشاف  عن الحكمة في علة الخلق .وما يعنينا، نحن في هذا الصدد،هو الفعل التخاطبي التداولي للآية الكريمة التي تقوم بوظيفة إثبات القول لله تعالى-إذ الكلام من أجل صفات كمال الخالق سبحانه وتعالى  بما شاء كونا وشرعا،متى شاء،وكيف شاء،فكل ما يحدث في هذا الكون فهو بكلمة “كن”لقوله تعالى “إنما أمره إذا  أراد شيئا أن يقول له كن فيكون”(يس:82)،وكل الكون مراد له قدرا،وأما قوله الشرعي،فهو وحيه الذي أوحاه لأنبيائه ورسله”(راجع: www.alukah.net/sharia/)،ومخاطبته للملائكة بما يفهمونه ويسمعونه وصدق المتنبي إذ يقول:

وليس يصح في الأفهام شيء   إذا احتاج النهار إلى دليل

ومن هنا، فوظيفة التواصل الديني أساسا ابلاغية حجاجية من خلال إقامة الله تعالى الحجة على خلقه ببعث الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين” لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل”عبر عدة قنوات سواء تعلق الأمر بالوحي الاشاري السيميائي المتعالي عن شفرة اللغة الطبيعية بوصفه فعلا تواصليا غير قولي يقتضي الفعل والانجاز-فقد أوحى الله تعالى لأم موسى كما أوحى إلى النحل والى الملائكة-أو عبر الكلام  من وراء حجاب كتكليم الله موسى عليه السلام من وراء حجاب الشجرة والنار والجبل باعتباره فعلا تواصليا لغويا يكرس تفاعلا تبادليا حواريا بدليل قوله تعالى:”فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ.“(طه:11 12 13)،عبر استدعاء “أسلوب النداء” قال تعالى:” وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا.“(مريم:52)باعتباره قولا لغويا يفهمه موسى الكليم يؤكده الحوار الوارد في قوله تعالى:”وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.“(سورة الأعراف:143)،أو عبر الوحي غير المباشر المؤدى من خلال وسيط ملائكي(جبريل عليه السلام) دالة عن طريقة نزول القرآن الكريم . إن هذه الطرق مجتمعة الدالة على خطاب التواصل القرآني متضمنة في النص الجامع أو الشاملl architexte-بلغة جيرار جنيت-هو قوله تعالى:” وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ  إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ.”(الشورى: .51-52).ويمكن اختزال هذه الوظائف التواصلية الثلاث في الوصل-الدال على فعل نقل الخبر- والإيصال-الدال على نقل الخبر من جهة منتجه(المتكلم)،والاتصال الدال على نقل الخبر من جهتي منتجه ومتلقيه( طه عبد الرحمن:اللسان والميزان:م،س:ص:254) ويمكن ترجمة ذلك عمليا من آي القرآن الكريم بدليل قوله تعالى:”يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.“(المائدة:67)على اعتبار أن الحق سبحانه،من هذه الزاوية مرسلا  أولا ومتكلما وموحيا،والرسول-صلى الله عليه وسلم- متلقيا أولا ومرسلا ثانيا لخطاب الوحي الإلهي على أساس تبليغه بما أمر به من لدن ربه لكافة البشر بدليل قوله تعالى:”هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ.“(إبراهيم:الآية: 52).

وبالنظر لمحورية الخطاب التواصلي،فقد حول القرآن الكريم شبه الجزيرة العربية من بؤرة للتوتر والصراع إلى فضاء للتعارف والتفاعل و التواصل-على اعتبار أن التعارف غاية  من غايات التواصل مع الجماعات،فكلما تقوت وشائج التعارف ترسخت جذور وثقافة التواصل في المجتمع الإنساني(بلقاسم حمام:آليات التواصل في القرآن الكريم ،أطروحة جامعية،2005،ص: 170)-بمختلف أنماطه وأشكاله:من خلال مخاطبته للأفراد،ودعوته للتواصل الذاتي(تواصل الإنسان مع نفسه)،التواصل مع المجال الكوني(تواصل الإنسان مع المحيط البيئي)،التواصل مع الذات الإلهية(تواصل الإنسان مع خالقه عبر مناجاته والتوسل إليه،التواصل الاجتماعي مع الآخر(تواصل الإنسان مع مجتمعه الصغير أو الكبير،القريب أو البعيد)،او بواسطة مراعاة آليات التواصل في الدعوة إلى الله عز وجل(منهج الدعوة والإصلاح والتغيير السلمي)من زاوية مخاطبة النص القرآني ومحاورته وتواصله مع مختلف الطبقات الاجتماعية والدينية(أهل الكتاب،الكافرون، والمنافقون المؤمنون) بدليل قوله تعالى:”قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ“(أل عمران:64)،أو عبر توثيقه لمحاورات وجدالات  الرسل السابقين مع أقوامهم،علما أن مساحة المحاورات والمجادلات في النص القرآني أكثر من مساحة التشريعات والأحكام(آليات التواصل في القرآن الكريم،م،س:ص:173)،مؤسسا،بذلك، لأمة الشهود الحضاري فضيلة منهجية التواصل المثمر والحجاج الفعال من خلال تعليم القرآن الإنسان كيف يحاور الآخرين على أساس الحجة والدليل والبرهان،وكيف يمكن تأهيل الخطاب الإسلامي وترشيده وعقلنته ليرتقي المسلمون إلى مستوى محاورة العالم(من منطلق عالمية -وليس عولمية-الرسالة المحمدية الغراء بدليل قوله تعالى:”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.“سورة الأنبياء:107)،شريطة احترام خصوصيات الثقافات، واللغات، والأديان، والحضارات الأخرى(إيمانا منا بفلسفة التعدد والتنوع)،مما يؤصل،بحق، لحوار الثقافات، أو حوار الحضارات على قاعدة الاحترام المتبادل والتعايش السلمي مع الآخر في سياق كوني يغلي كالمرجل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.